الهاكاثونات: أي مسار ستسلك؟

في عصرٍ ميزته السرعة الفائقة، وقفزة التقانة الهائلة، وانفجار دائرة العلوم العلمية والإنسانية، وما يرافق هذا التطور من تحديات لا حصر لها في مختلف المجالات الحياتية، تبرز فكرة الهاكاثون كتجمع أو ملتقى محدد بزمن يجمع المبدعين والمختصين في مجال معين للتركيز على حل أزمة، أو جواز عقبة، أو اقتناص فرصة، أو تنافس شريف.

مع أن الهاكاثون فكرة فذة وعبقرية، بما تسفر عنه من إبداعات فكرية، وما تبرزه من مواهب شبابية، لكنها تخرج في بعض الأحيان عن نطاق الأهداف الأساسية التي كانت لأجلها؛ وذلك يؤدي بها إلى مفترق طرق: الانكماش، أو الإنعاش؛ وذلك ما يستدعي التفكير مليًا والوقوف جليًا على أهم التغيرات الأساسية التي ظهرت في الهاكاثونات في الآونة الأخيرة، واقتراح حلول واقعية عملية، لتحسين تجربة الهاكاثون ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، محاولةً للنهوض بها وردها إلى مسارها الصحيح بإذن الله.

بالعودة إلى جذور فكرة الهاكاثون، نجد أنها تنطلق من فكرة عملية وتتبع لأساليب منهجية لحل تحدٍّ مستعصٍ بأفكار لا حصر لها وبعدد لا محدود من العقول النيرة. لكن الواقع يسفر عن غير هذا؛ يسفر عن سطحية شديدة في تحديد التحديات ومن ثم الحلول، أي أنها يمكن تصورها وتقديرها من أي شخص غير متخصص، بعكس هدف الهاكاثون وهو الوصول إلى جذور التحدي وابتكار حلول رائدة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى خلفية علمية متقنة ومتخصصين على علم ودراية بالتحدي أو المنهجيات؛ وهذا ما زهّد المبتكرين فيها زهدًا شديدًا، فخرجوا من هذا المضمار نائين بأنفسهم عنه، باحثين عن ما يطبب أنفسهم من تلك الندبات ويداويها من تلكم الجراحات.

غياب منهجية إدارة الهاكثونات وإدارة الأفكار عقبة كبيرة تعوق تحقيق نتائج ملموسة ومستدامة من هذه الفعاليات فتصبح عرضة للفوضى والشتات، إذ يعاني المشاركون ضَعْفَ اتساق الأهداف والتوجيهات وضعف مبادئ التقييمات، أو قد تكون موجودة لكن شكليًا كحبر على ورق دونما أي التزام بها، وهذا النقص في التنظيم يقلل من كفاءة الحلول وجودتها، ويقلل من فرص فوز الأفكار المتميزة وتحويلها إلى مشاريع قابلة للتنفيذ.

من جهة أخرى، فإن غياب إدارة الأفكار عقب الهاكثونات تحدٍّ آخر يسهم في ضعف المخرجات على المدى البعيد. بعد انتهاء الفعالية، تفتقر الأفكار المبتكرة إلى الدعم والمتابعة اللازمة لتطويرها وتنفيذها وإن كان بعضها قاب قوسين أو أدنى على بلوغ النجاح في عملية تفريط متعمدة لهذه الكنوز الثمينة. هذا النقص في الدعم يؤدي إلى تراجع الحماسة وضياع الفرص، إذ تظل عديد من الأفكار المبتكرة حبيسة الأدراج دون أن ترى النور.

وإلى التحديات السابقة يبدو تحدٍّ جديد وهو مثلث الوقت والمجهود والمال، ولا يخفى أن حل التحديات الدقيقة في أي مجال يحتاج إلى مجهود غير عادي وتضافر العمل الجماعي، ويُدفع هذا المجهود بالتحليلات العلمية الدقيقة والعمل المكثف، والدعم المالي غير المشروط للحلول المبتكرة والمنطقية، بالإضافة للوقت الكافي لتقديم حلول منهجية، فإذا لم يرافق الهاكاثون العوامل السابقة، فذلك ما يؤدي إلى تحويل الهاكاثون إلى مجرد حدث عابر غير قادر، بدلًا من هدف الهاكاثون الجوهري في حل التحديات المستعصية أو تطوير حلول ناجعة في نطاق المجال المطروح.

وقد يصاحب كل المصائب السابقة مصيبة لا تقل حجما عن أخواتها وهي الاستعراض الإعلامي المبالغ فيه للهاكثونات مما يؤدي إلى تأثيرات سلبية في قيمتها الحقيقية وفعاليتها. الهاكثونات التي كانت تُعقد بغرض تحفيز الابتكار وتطوير الحلول العملية، تحولت إلى مجرد أحداث ترويجية تُستغل للدعاية أكثر من كونها منصات للتعلم والإبداع. هذا التحول أدى إلى انخفاض جودة المشاركة والنتائج، إذ أصبح التركيز على الجاذبية الإعلامية بدلًا من الابتكارات الحقيقية.

ولعلك أخي القارئ قد أدركت أيضًا أن تحويل الهاكثون إلى استعراض إعلامي قد انعكس سلبًا على مستوى التحكيم في الهاكاثونات، وقلل من مصداقية مخرجات هذه الهاكاثونات، ويعزى هذا الهبوط في مستوى التحكيم والتقييم للهاكاثونات إلى غياب منهجيات التقييم وإستراتيجياته، أو ربما نقص في أهلية المحكم وإمكاناته، وغياب الوعي أحيانًا عن أحد الأهداف الأساسية للهاكاثونات وهو التحديث والتطوير والتحفيز لكل الحلول بغض النظر عن مستواها أو مركزها في نهاية الهاكاثون، وهذا هو جوهر التحكيم الحقيقي، وهدفه الأساسي أكثر من التقييم المعتاد، والمعايير الروتينية. وعلى جانب آخر هناك فئة من المحكمين تسهم في رفع مستوى الهاكاثونات، سواء بالمستوى التحكيمي أو المعرفي، أو على مستوى الاهتمام بجميع الأفكار على السواء ودعم الإبداع أيًّا كانت طريقته.

قد كان هذا استعراضًا لغالب التحديات الأساسية التي لحقت بالهاكاثونات الحديثة، وآن لنا أن نقدم بعض الحلول باختصار غير مخل لإيصال الفكرة المرجوة، فما كنا لنطرح مشكلات وتحديات دون مخرجات وإجابات:

أولًا، على منظمي أي هاكاثون الاتفاق من قبلُ على إستراتيجية واضحة، ومعايير موزونة لإدارة الهاكاثون، ووضع أهداف لتحقيقها في نهاية الهاكاثون، وذلك ما يحل العشوائية والتخبط اللذين تتسم بهما الهاكاثونات الحديثة، وينبغي للمنظمين اختيار تحديات قائمة وواقعية لطرحها في الهاكاثون عوضًا عن التفكير في تحديات مستقبلية بعيدة أو نادرة الحدوث، أو تحديات من خارج نطاق اهتمام المجتمع. قد يحسن بهم أيضا الاستعانة بالخبراء والشركات المتخصصة في خدمات الابتكار لتخطيط وتنفيذ ما سبق ذكره فقديما قالوا في مرويات متعددة الألفاظ متحدة المعنى “أعطِ الخبز لخبازه ولو أكل نصفه !”.

ثانيًا: التحليل العميق والمفصل للتحدي المطروح في الهاكاثون من قبل اللجان المسؤولة، وذلك لكي يكون التحدي أكثر وضوحًا للفرق المشاركة في الهاكاثون لكي تستطيع تركيز جهودها في حل التحدي المطروح، بدلًا من إضاعة الوقت في محاولة فهم المطلوب، أو ارتجال حل غير متعلق بالتحدي المطروح تحديدًا، ولا يخفى أن طرح تحدٍّ ناتج عن تحليل ودراسة معمقة يحتاج إلى مجهود أكبر من قبل المشاركين، ومن ثَم يجب منحهم الوقت الكافي للتحليل والإبداع وابتكار الحلول. إن سبر أغوار التحديات والإلمام بجذورها مثل التشخيص الطبي وإذا كان صحيحًا فهو نصف العلاج بإذن الله.

ثالثًا، تحسين معايير التقييم والتحكيم، وبناؤها على أسس منهجية عادلة، هدفها إخراج أفضل الحلول وأنجعها إلى العلن، وتحسين جميع الحلول المطروحة وتطويرها، واحترام مجهود جميع المشاركين، ودعمهم بالنصح والإرشاد والنقد البناء، والتقييم على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي لدعم الإبداع الفردي والإبداع الناتج عن عمل الفريق على السواء.

رابعًا، إضافة جانب العائد الاقتصادي من ضمن معايير الحلول المطروحة لاستدامة الحل والأثر، خاصة أن بعض الهاكاثونات هي مدخل أو طريق لحاضنات الأعمال، التي هدفها إخراج المشاريع الريادية من نطاق الفكرة إلى نطاق العمل والمال والسوق، والفكرة الفذة في يد من يستغلها تتحول إلى مؤسسة ناشئة في مختلف القطاعات: الحكومي والخاص وغير الربحي، والأمثلة لا تحصى.

يجدر بنا التأمل في مشكاة النبوية واستلهام هذه المعاني السامية فقد ثبت أن الدال على الخير له مثل أجر فاعله، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا” رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: “من دلَّ على خير، فله أجر فاعله” رواه مسلم، فهنيئاً لمن شارك في بناء صرح عظيم كان منشأه فكرة صغيرة نبت وترعرعت في هاكثون، فكان لها داعماً وحارساً.

نقول إن الهاكاثونات، وفكرتها الجوهرية التي هي حل التحديات بكل أنواعها، قد بدأت تضعف وتفقد بريقها، لغياب الجودة والكفاءة عنها؛ وذلك يوجب على كل الشخصيات والجهات ذات العلاقة، والرياديين ورجال الأعمال، أن يُجمعوا أمرهم لإعادة مسار الهاكاثونات إلى مسارها الطبيعي، لتحقيق أهدافها في التحديث والتطوير والابتكار، وحل التحديات التي تواجه الأفراد والمجتمعات، وإخراج الطاقات الشبابية إلى الواقع.

خالد علي المرحبي، مهتم بالتقنية والابتكار وصناعة الأفكار. أتعلم كل يوم، وأحاول أن أجيب على سؤال: كيف نعيش حياة أفضل؟ يسرني أنك وصلت إلى مدونتي الشخصية، وأرحب بالتواصل معي في أي وقت.

‎مؤخرة الموقع