حينًا من الوقت يمكن أن يستمر أحدهم في تسطير نجاحاته، لكن مع افتقاده للتجدد فإنه قد يستمر لكن سيسبقه غيره، إن النجاح واستمراره في حاجة ماسة إلى ما يدعمه ويؤازره، وليس أقيم في أداء ذلك من ابتكارات تمس حاجة الناس وتناغم ما يطمحون إليه.
منهجية الابتكار في الإسلام
لم يكن الإسلام يومًا بتشريعاته بعيدًا عن الجدة والابتكار، بل أسس لهما في كثير من نصوصه وتوجيهاته، وجعلهما بمثابة ثقافة وممارسة على المسلم الحق أن يتحلى بهما، فكان النبي صلى الله عليه وسلم مثالًا يحتذى به في هذا الشأن، فلم يكن رأيه صِرفًا يغالب به ما سواه، بل على العكس فتح باب الاجتهاد بالرأي في كثير من المواضع خصوصًا تلك المتعلقة بواقع الناس والمسائل الاجتهادية، ومن خلفه سار المسلمون الأوائل على نفس الدرب من الاجتهاد والمشورة وابتكار الحلول.
موقع العقل والتفكير من الإسلام
كان القرآن العظيم صريحًا في دعوته للعقل المسلم أن يتحرر ويفكر ويناظر ويصل إلى الهدى، “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا” إنه أمر بمدارسة الأشياء والنظر إليها عن قرب والتعلم مما كان من سير الأولين، والانطلاق من جناب ذلك إلى آفاق مؤصلة من الإيمان واليقين، كذلك نرى أمرًا آخرًا يَرِد مرارًا وتكرارًا في القرآن العظيم حين يقول رب العزة “لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” عبارة -كما نرى- فيها مدح بيّن وتوجيه رشيد لما يجب أن يكون عليه المسلم من تفكر ومداومة، فلم يأت الإسلام ليجعل من منتسبيه أتباعًا يتلقون توجيهات دون وعي، بل اشترط فيهم التفكير إن كانوا حقًا يريدون الوصول إلى الدرجات العليا من الإيمان.
بالنظر إلى السنة النبوية المشرفة نجدها كذلك حاضة كل الحض على العمل والحركة والابتكار، ولنا في ذلك الحديث الذي يَعِد المجتهد بالثواب أيًا كان اجتهاده خير دليل، ففي الصحيحين عن النبي ﷺ قال: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر” وفي ذلك الحديث أمر مباشر بالتفكر وتحري الأشياء ومن ثم الوصول عبر كل هذا الوعي المتكون إلى قرار ورأي، وذلك بالطبع مما يدعم الابتكارية ويؤصل لها.
حث الإسلام على الابتكار
يأتي الإيمان بالله وما يترتب عليه من تسليم تام بأن كل شيء في هذا الكون يسير وفق نظام محكم من الخالق عز وجل، يأتي هذا الاعتقاد كحافز قوي على طريق تنمية أساليب التفكير والاستنباط لدى الإنسان، ومن ثم يكون الوصول إلى الابتكارية أقرب من أي وضع آخر.
الإيمان بوحدانية الله واليقين بأسمائه الحسنى وصفاته يقودنا للتأسي بها واستحضارها دومًا أمامنا في حياتنا، ضمن هذه الأسماء اسم الله البديع، ذلك الاسم الذي يصلنا مباشرة بالإبداع والابتكار وإتقان العمل
بالإضافة إلى ما سبق من أسس لإدارة الابتكار تبرز عناصر أخرى مهمة مثل الصدق والإخلاص، فمتى كنا صادقين بشأن ما نمتلكه من أدوات، مدركين جيدًا لمواقع الضعف فينا فإننا سنتحرك إلى الأمام بما يتناسب مع ذلك وبالتالي ستقل مساحات الخطأ، ثم يأتي إخلاص العمل من بعد ذلك ليكمل المنظومة ويسلمنا إلى الإبداع والابتكار. كما يولي الإسلام الوقت أهمية كبرى، فهو النعمة المغبون فيها كثير من الناس كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أحاديثه، وهو بهذا التعريف ينبه على أهميته ويدلل على أن استغلاله وإحسان تقديره من الأمور الواجبة، والتي بإمكانها تغيير كل شيء إلى الأفضل، لا على جهة العبادات فحسب وإنما على جميع الجهات، وليس الابتكار إلا جهة من تلك الجهات المهمة، والتي إن سُخِر لها الوقت كما يجب، فإننا حتمًا نسير بها إلى البزوغ وحسن الظهور.
المسارعة والمسابقة
لا تقف الأسس التي وضعتها الشريعة الإسلامية لفضيلة الابتكار عند ذلك الحد، بل تأتي المسارعة والمسابقة لتشكل حيزًا جديدًا من المنافسة، يشمر فيه الجميع عن ساعده أملًا في الوصول إلى أفضل النتائج والهيئات، وفي الإطار ذاته لا ينفك الإسلام يؤسس لإتقان العمل، كذلك يحث على المثابرة والمداومة على طرق الأبواب دون ملل أو كلل، وفي هذا الأمر دفع لليأس ومحو له من ذاكرة المسلم، مما يدعم سيره الحثيث تجاه ابتكاريته المرجوة.
عبر كل ما سبق نصل إلى أن الابتكار يمثل جزءًا أصيلًا من الإسلام، ليس من خلال تعاليمه ونصوصه الكثيرة التي وردت في الحض على الابتكار فحسب، وإنما كذلك من خلال فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه أصحابه رضوان الله عليهم وصولًا إلى التابعين ومن تبعهم من المسلمين الأوائل؛ الذين اتخذوا الابتكار طريقًا لهم، فرأيناهم يبرعون ويبدعون في كل المجالات.
إن الابتكار الذي عرفته الحضارة الإسلامية منذ نشأتها ليس شيئًا عارضًا سطحيًا، وإنما هو منهج متكامل سديد الأركان، يعرف جيدًا كيف يتعامل مع الواقع والعصر بمرونة وفاعلية كافية، دون الإخلال بالعقيدة أوما تقتضيه الشريعة، إننا أمام نموذجا تاريخيًا ومنهجًا حضاريًا يدعونا لأن نعود إليه وننضوي مجددًا تحت لواءه، ونعيد من نافذته إلى الابتكار والإبداع ما يستحقانه من اعتبار.
تابعني