ليس ثمة مجتمع دون مشكلات، لكن ما يميز مجتمع عن آخر هو مقدار الابتكار والحلول الناجعة التي يوفرها لمعالجة مشكلاته، من هنا تبدأ الحضارة في الانتساب إلى المجتمعات، وتتبارى الأمم في وضع ذاتها ضمن سياق تاريخي مشرف من السبق والتأثير، ولقد كان للإسلام في هذا المضمار بحضارته السامقة التي أظلت العالم على مدى قرون طوال، كان له فضلًا ملموسًا لا ينكره إلا جاحد، مهد به للإنسانية أسباب العلم ووضع العالم على مبتدأ طريق صاعد من العلم والاكتشاف.
فتح الإسلام بقدومه آفاقًا لا تضاهى من الجد والعمل والاجتهاد، فهمّ كثيرون صوب العلم يسيرون على دربه، حاصدين المعرفة والأساس القويم الذي أوصلهم فيما بعد أن يكونوا من الابتكار والإضافة بمكان، فكان التدوين واللغة والأدب أولى المعارف التي انصب عليها التركيز وذلك لما لها من أثر قوي في تنمية الأفكار وحملها من جيل إلى جيل، فبرع المسلمون في ذلك أيما براعة، ولم يجد غيرهم من الشعوب بُدًا من اقتفاء ذلك الأثر، فتأثروا بالمسلمين في مناحي كثيرة من الآداب مثل الفروسية والحماسة والمجاز والتخيلات الراقية كما تأثروا بعلوم اللغة العربية فأخذوا عن المسلمين تنظيم المعاجم وفهرستها وكذا سادت في لغاتهم كثير من المفردات العربية الخالصة مثل القطن وعلم الجبر والكحول والليمون وغير ذلك الكثير.
لا شيء يضاهي التشريع الإسلامي من حيث إحكام النص وإغلاق النسق وشموله لكل ما يمكن أن يرد في خاطر الناس بعدالة ونزاهة شديدة الأثر
وهي أمور كانت فارقة قيام الحضارة الإسلامية واستمراريتها كل هذه القرون الطوال، وقد أفاد الأوربيون من تلك التشريعات والأحكام الفقهية فاقتبسوا من تنظيمها خلال فترات تواجد المسلمون في الأندلس، أما نواة التشريع الفرنسي في العصر الحديث فقد كان اعتماده على ترجمات لكتب فقهية مالكية أخذت من المكتبة العربية إبان الحملة الفرنسية على مصر.
وفي الوقت الذي كانت أوروبا تغوص في الظلمات وتدور بفكرها في إطار خرافي بدائي، كان علماء المسلمون يناقشون أشياءً مثل كروية الأرض ودوران الأفلاك وحركة النجوم، فعلى سبيل المثال وضع العالم المسلم الكندي أساس علم الشفرة، وأسهب في تنظيمه، ذلك العلم الذي لا يزال ركيزة أساسية في مجال الحاسوب والإنترنت، بل له الفضل الأكبر في تطوير مجال الذكاء الاصطناعي في عصرنا الحالي.
أما في علم مثل الصيدلة فقد كان عصر الحضارة الإسلامية شاهدًا على نقلة نوعية فيه، فكان للمسلمين السبق في إنشاء حوانيت بيع الأدوية، وكان لهم اليد الطولى في تطويرها، وقد ألفوا في هذا الباب كثير من الكتب التي ترجمت لعديد من اللغات مثل اللاتينية والصينية، أما الطب فحدث ولا حرج فهذا ابن سينا رائد هذا العلم وصاحب كتاب “القانون” والذي احتفى به الأوربيون كثيرًا فترجموه وجعلوه أساسًا لاجتهادهم في دروب الطب.
ولم يتوقف شعاع العلم والابتكار الإسلامي عند حدود الأزمنة القديمة، بل حضر سناه في زماننا الحاضر في كثير من الدروب كذلك، عبر إسهامات علماء مسلمين تناثروا في كثير من البلدان، وتوزعوا كذلك على كثير من المجالات، ففي مجال مثل الاقتصاد يبرز النظام الإسلامي كأحد أكثر الأنظمة أمانًا وموثوقية، ففي الوقت الذي انحدر فيه العالم في أزمة اقتصادية طاحنة عام 1428 من الهجرة النبوية الموافق 2008 ميلادي بسبب الاقتراض الفاحش والرهن العقاري والفوائد الربوية، كانت الأنظمة المصرفية الإسلامية في معزل تام عن كل ذلك، وقدمت حلولًا ناجعة يمكن للعالم التعلق بها كطوق نجاة، مثال تشجيع الاستثمار الحقيقي وتجنب المضاربات الوهمية، والتخلص التدريجي من سعر الفائدة والتعاملات ذات الصفة الربوية، وهي حلول تبنتها كثير من المجلات والصحف العالمية المتخصصة مثل مجلة “تشالنجرز” وغيرها.
إن كل ما سبق من أمثلة بسيطة لما قدمه ويقدمه العقل المسلم من حلول وإبداع وابتكارات وفكر قويم، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك على مدى ثقل ذلك العقل ورجاحته وأهميته التاريخية والآنية، ذلك العقل الذي انطلق إلى كل هذا من إيمان عميق ويقين أكيد بالله تعالى واستعانة دائمة به، كذلك يدفعنا هذا التذكير بكل هذه الإنجازات إلى ضرورة الابتعاد عن روح الانهزامية الحضارية التي ربما تسري في نفوس البعض، والتي تكبل الإرادة وتحبط جهود التقدم والمحاولة، كما يدفعنا هذا التذكير بالإنجازات كذلك إلى لزوم الابتعاد عن العيش في الماضي والاكتفاء بما صنعته حضارتنا من أفضال، والانطلاق من جناب ذلك كله إلى آفاق المنافسة والابتكار وبذل الجهد وإثبات الذات في جميع مجالات العلوم والحضارة.
تابعني