كوب القهوة ونعيمه الزائف

القهوة مزاج صباحي ونمط حياة، بل سرّ طاقة تتجدد، ومنطلق نحو يوم حافل بالحركة وعالم مجنون يعجّ بالأحداث المتلاحقة. يتفنن عشاق القهوة في احتساء الرشفات فيحلو الحديث، ويتعالى نبض الأدرينالين كما يتقنون نسج تفاصيلها وممارسة طقوس مرتبطة بتعاطي الفنجان الساحر. في الوقت ذاته، يجتهد صنّاع هذا التقليد الذي طغى على بقاع المعمورة في التنقيب عن أفخم أنواع البن التي تُحكم سطوتها على دماغك فتحلق به في عوالم عجيبة. أكثر من ملياري فنجان قهوة يوميا تجد طريقها السلس والمضمون إلى شفاه شغوفة متعطشة لسحر ارتشافها…

القهوة دواء

القهوة محفز قوي للدماغ يعزّز اليقظة والنباهة ومن الثابت طبيا قدرتها العجيبة على تقليل فرص الإصابة ببعض الأمراض مثل السكري من النوع الثاني واعتلالات الكبد كما أنها خزان يضخ مضادات الأكسدة نحو جسمك، ومن فوائدها أنها تقلل من فرص الإصابة ببعض أنواع السرطان وحصوات المرارة، وهي كذلك عصب للاقتصاد من خلال التجارة والتصدير والاستيراد، ولا تخلو القهوة من فوائد اجتماعية كجمع العائلة وتجاذب أطراف الحديث معهم أو السمر مع الأصدقاء.

تباينت الحكايا وتنوعت المشاعر والأقاصيص عن أسرار القهوة التي لا تنتهي…

قيل عنها أنها ماء وقليل من البن ويراها البعض روحاً وكثيراً من الحب، وقيل أنها أجمل منعشات الحياة وقال أحدهم: تصالح مع نفسك بفنجان قهوة، فالمتعة شيئان: قهوة ساخنة، وزخات مطر ناعم، ومن أبلغ ما قيل أن بعض الأشخاص يعبرون عن مطلق حريتهم في شرب فنجان من القهوة فقط، وقيل أن المجد لمن يعدون قهوتهم في الليل بصمت، وقال مغرم عندما أشرب القهوة معك أشعر أن شجرة البن الأولى زرعت من أجلنا! كما أن البعض يقول شرب القهوة ليس محض احتياج  ولكنه يساعدني في أداء روتيني اليومي.

القهوة ليست منتجا إقليميا ولا عادة محلية فقط بل يتنافس عليها معظم بلدان العالم ففي إثيوبيا مهد شجرة البن العربي “أرابيكا “، يكتسي تحضير القهوة واستهلاكها عناية خاصة اعتقادًا منهم أنها مشروب من الآلهة كما يزعمون، كما تنتشر الطريقة التركية بحمستها المميزة بطعم لذيذ تخالطه المرارة في جلّ بلدان العالم، أما الفيتناميين فيفضلون القهوة الطازجة المقطرة مع إضافة الحليب المكثف عليها بينما يختار الإيطاليون إضافة شيء من الخمر ! وهناك المئات من العادات والتقاليد سواء في تحضيرها أو طريقة احتسائها مما لا يسع التفصيل فيه.

القهوة في قفص الاتهام

هل تستحق القهوة كل هذا المدح والإطراء؟ بلا شك هي مشروب مثالي وصحي إلى حد ما ويكفي أنه مما أحله الله ولكن من يمعن النظر في حال الناس وفي وسائل التواصل الاجتماعي يجد أن حظ منشورات القهوة يتعاظم ويتنامى، كما أصبح مجالا واسعا للمبالغات تتجه نحو الإفراط المخلّ، وكأن من يحتسي مشروب البن عالم ذو شأن أو مفكر ملهم ذو حظ وافر من النباهة قد ارتقى  لدرجة أهل الابتكار ورواد المعارف والمخترعين. أصبح الحديث عن القهوة والتعلق بها أمرا مزعجا وكأن القهوة هي المشروب الوحيد أو أنه لم يخلق إلا لشرب القهوة ! ناهيك أن يحبس الإنسان نفسه عن عمل دون شرب القهوة فيحفر لنفسه حفرة يسقط فيها لا أخوه.

إدمان القهوة عادة سلبية تجعل الإنسان أسيرا لها وتحكم أغلالها حول معصميه والإنسان الذي تأسره عادة ضعيف يكبل نفسه بقيود يصعب الخلاص منها مع تقادم الزمن

وليس ثمة علاقة بين الإنجاز وشرب القهوة أو أن كل من يشرب القهوة ينجز أو وجود علاقة طردية بينهما كما يتوهم البعض. حينما تصور قهوتك وتزعج العالم بها وأنت مستكن البال هادئ النفس صاحب مزاج كما تسول لك نفسك فلا تعدو أن تكون هذه الممارسة شيء مما يعزز توكيد الذات ليس إلا فضلا عن صرف الأوقات والاهتمامات بمتابعة أخبارها والجري خلف وصفاتها وسرابها.

من وجهة نظر طبية بحتة، للقهوة أضرار عديدة إذا أسرِف في شربها بكميات غير معقولة فهي مصدر ضرر للمعدة يستثير القرحة كما أن بتر عادة تناولها يصيب متعاطيها بأعراض انسحابية مزعجة مثل الصداع وصعوبة التركيز والدوخة وتقلب المزاج. الكافيين يسبب شيئاً من الإدمان ولاسيما مع شربها باستمرار وإيجاد قدرة علي تحمل جرعات أكبر مما يجعل الشخص يحتسي كميات أكثر ليصل للمزاج والتأثير السلبي المطلوب فالكمية المحدودة منها لن تكفي مع الزمان ليصل صاحبها إلى الروقان كما يزعم وبالتالي يكون صاحبها في لهفة متزايدة حتى لا يعتاد جسمه ذات الجرعة من الكافيين. يقول راسل كيست باحث في استهلاك الكافيين في كلية التمارين الرياضية وعلوم التغذية في جامعة ديكين في أستراليا: “تناول كميات كبيرة من الكافيين يوميًا قد يقلل من ثبات اليد ويزيد من القلق”. كما أن طريقة تحضيرها قد يجعلها غير صحية تماما إذا أضيف لها الكثير من السكر والمنكهات مثل الكراميل أو اعتاد صاحبها على زيادة الكافيين (Extra shot coffee). إضافة لما سبق فإن الكاتب ماثيو ووكر يذكر في كتابه “لماذا ننام؟” أن إدمان القهوة في الصباح مؤشر على اضطراب النوم وأن النوم لم يكن بطريقة صحية سليمة !

حياة بدون قهوة!

لم يكن معظم المنجزين أسرى لطقوس معينة فقد كتب الإمام محمد بن أحمد السرخسي -رحمه الله- مجموعة من كتبه مثل كتاب المبسوط وهو أحد أكبر كتب فقه المذهب الحنفي ويقع في خمسة عشر مجلدا وهو في جب دون أدنى مقومات الكتابة فضلا عن وجود أصناف المشروبات، والعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- مثال معاصر آخر كتب جل كتبه وهو تحت بيت الدرج دون أن يأسر نفسه بعادة رغم أن المكان ليس مهيئا للكتابة والقراءة ومع ذلك وطن نفسه على البعد عن الطقوس.

وحتى تكسر هذه العادة وتفل الأغلال التي علقت بك، ابدأ بكتابة كل شيء تأكله أو تشربه لبضعة أيام لتحديد جميع مصادر الكافيين ثم احسب العدد الإجمالي للمليغرام الذي تتناوله كما يقول تشاد ريسيج باحث في جامعة جونز هوبكنز يدرس التأثيرات السلوكية للكافيين، ثم انطلق لتقليل تناول الكافيين بحوالي عشرة بالمائة وهكذا حتى تنحسر رغبتك. اعتدل في الشرب ولا تجعل القهوة طوق نجاة من جحيم الحياة، فهي لن تعدو أن تكون مشروبا ولن يمنح القوة والطاقة شيء في هذه الحياة مثل الاستعانة بالله والتوكل والاعتماد عليه وسؤاله العون والتوفيق، فإن كان ولا بد فجرب مشروبات نافعة أخرى واستغل وقتك معها بالقراءة والاطلاع والبعد عن الذين يسمون أنفسهم بعشاق القهوة. أخيرا، الحرية أن لا تكون أسيرا لأحد وعود نفسك على الإنجاز بكوب قهوة أو بدونه !

خالد علي المرحبي، مهتم بالتقنية والابتكار وصناعة الأفكار. أتعلم كل يوم، وأحاول أن أجيب على سؤال: كيف نعيش حياة أفضل؟ يسرني أنك وصلت إلى مدونتي الشخصية، وأرحب بالتواصل معي في أي وقت.

‎مؤخرة الموقع