هل كنت مصدقا أن يكون من بين أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية من يتقن اللغة الإنجليزية والفرنسية؟ ومن عاش في فرنسا ثم خرج منها بإيمان ثابت كالجبال لا يزعزعه شيء؟ ومن وعى العلوم الاجتماعية والشرعية والقانون والاقتصاد والفلسفة المالية والسياسة في قلب واحد؟ نعم حق لنا أن نقول أنه لا يزال في الناس بقية من خير، ولا تزال هذه الأمة رحمًا يخرج العلماء والعاملين المخلصين، ولا يزال شعاع الأمل ينبثق من بين ثنايا الظلام! إنه بقية السلف، وشمس الخلف، الشيخ صالح الحصين رحمه الله.
ما دفعني للكتابة عن هذه السيرة الفريدة أنه عاصر الثورات الصناعية والنهضة العلمية والتحول الرقمي والحضارة الغربية وعاش فترة من الزمن مبتعثا في باريس وقت الانبهار والاستلاب الثقافي، بلغاتهم قرأ ما كتبوه وشاهد ما أنتجوه، وحمل لقب معالي أكثر من 40 سنة فكان من أحق من وصف بها ومع ذاك فقد كان زاهدا متواضعا مدركا لحقيقة الدنيا، غزير المعرفة، حديث المعلومة، مستنير الفكر، عامل في البر.
نشأته
ولد الشيخ بشقراء سنة 1352هـ، ودرس بها المرحلة الابتدائية، ثم التحق بدار التوحيد بالطائف وحفظ القرآن وتخرج في كلية الشريعة بمكة المكرمة، وحصل على درجة الماجستير في القانون بمصر، ثم أتم دراسته القانونية بفرنسا للمقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الفرنسي؛ لكن تلك المقارنة لم تكتمل، حيث اضطر أن يعود إلى المملكة بسبب مرض والدته.
كان الشيخ موسوعة علمية بحق؛ حيث أجاد اللغة الإنجليزية في ثلاثة أشهر، وكذلك اللغة الفرنسية، وقرأ أكثر كتب المكتبة الأزهرية في أثناء مقامه بمصر.
منزلته
قال عنه الدكتور صالح بن حميد، واصفًا مسيرته العلمية :”خطا ـ رحمه الله ـ خطْوه في العلم وتحصيله في محاضن علمية متعددة، وبلاد متنوعة، وسعى إلى التنوع في المعرفة التي قادها وقيدها بأصول الشرع وكلياته، فتعلم الشريعة ودرسها ونظر في القانون وحصله؛ فاجتمع لديه أصل ووسيلة، فحكم الوسيلة بالغاية، ولم يجعل الوسيلة تعود على الغاية بالإبطال أو الإخلال؛ لقناعته بسيادة الشرع وعلوه علمًا وعملا”.
عمل الشيخ بالتدريس أولَ حياته، ثم مستشارًا قانونيًّا بوزارة المالية، ثم رئيسًا لهيئة التأديب، ثم وزيرًا للدولة وعضًوا بمجلس الوزراء؛ لكنه طلب الإعفاء من الوزارة ليتفرغ للعمل الخيري والدعوة إلى الإسلام.
رجل على عُلْو المناصب كلها
للخير فضل أن يكون العاملا
فتنقل في البلاد داعيا إلى الله بعلمه وعمله.
والله أكرمه بخير وظيفة
إذ صار في نفع العباد مؤمَّلا
منهجه ودوره الفاعل
رأى الشيخ أن الحياة لا بد أن تكون بالله ولله، فظهر ذلك في سلوكه ومنهجه.
أحس الشيخ بخطر يُداهم الإسلام والمسلمين، خطرِ الرق الثقافي، التبعية العمياء للغرب، والانبهار إلى حد الافتتان بالحضارة الأوروأمريكية؛ حيث صار المسلم يتقلد لباسهم وطعامهم وسائر مظاهرهم. والأخطرُ من هذا التأثيرُ اللغوي؛ فقد صار المسلم يتكلف الكلام الإنجليزي – بغير حاجة – في محادثاته، ويفتخر بهذا، ويظن نفسه بذلك مثقفا!
وخطورة التأثر باللغة تكمن في أن اللغة هي أداة التفكير، وهي التي تحكم العالم بمفرداتها وتراكيبها ودلالاتها، فتصورْ مجتمعاً يفكر بطريقة غيره، ويعيش حياة غيره، أنَّى له أن يرقى!
لقد صار مثقفو المسلمين، امتثالا للغرب ينادون بإعادة النظر في بعض التشريعات الإسلامية، مثل المواريث، وتعدد الزوجات…إلخ. وتجلت مظاهر الرق كذلك في الاقتصاد؛ حيث صار أكثر المسلمين يتعامل بالربا، ويرون ضرورته، والأخطر من هذا تسويغ بعض المنسوبين للعلم هذه المعاملات البنكية.
عمل الشيخ على إيقاظ أمته من هذه الغفلة؛ فبدأ بالدعوة إلى التمسك بمنهج الإسلام، وأجرى مقارنات علمية وعملية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة، وبيَّن اتفاق منهج الإسلام مع العقل الصحيح، والتحضر الإنساني، وفند شبهات الغرب التي يتهم بها الإسلام، وكانت أبرز هذه الشبهات تتعلق بباب الحريات كحرية الاعتقاد، وحرية المرأة، وتعدد الزوجات…إلخ. ومن جملة ما قال وأبدع: “إذا كان لا بد للمسلم أن ينتقد الغرب فليوجه انتقاده إلى عيوبه، أما مزاياه فينبغي أن ينافسه فيها ويسابقه إليها، واعياً أن العدل في الإسلام قيمة مطلقة، لا مجال فيه لازدواج المقاييس أو نسبية التطبيق، وسبْقُ الإسلام للغرب في تصور العدل لا يماثله مع الأسف إلا سبق الغرب للعالم الإسلامي الجغرافي المعاصر في تطبيقه – أي العدل”.
بعض مناقبه
وأما عن شمائله، فينبغي لمثلي أن يخجل من نفسه حين يذكر هذا الجبل الأشم!
رجل راودته الدنيا عن نفسه فقال معاذ الله!
تمالأت عليه الفتن من مال ومنصب وجاه، فولت مدبرة على عقبها!
هو قدوة في الأمانة؛ فقد دعاه الملك عبد الله ـ-رحمه الله وقد كان ولي العهد حينئذ- لرئاسة شئون المسجد الحرام والمسجد النبوي مرة أخرى، فقال بكل صدق وتواضع: لا تبرأ الذمة بمثلي!
وكان مخلصاً في عمله مجتهداً فوق طاقته؛ فقد ذكر الدكتور محمد الفريح: أنه وجده وقد ربط على يده رباطًا فسأله عنه، فقال: كنت على مقعد العمل فأغمي علي وسقطت!
وكان آية في التواضع والزهد؛ فقد ذُكر عنه أنه كان يصلي حيث انتهى به الصف، وهو رئيس شئون المسجد الحرام والمسجد النبوي!
وكان يذهب إلى العمل على قدميه؛ رغم أن وزارة المالية قد أعدت له سيارة للعمل!
وكان يسكن في شقة صغيرة، فقيل له: لمَ لا تشتري بيتا أكبر من ذلك، فقال: لنا بيت نبنيه، إلى الآن ما انتهى(يعني بيتا في الجنة).
إن التواضع والبساطة للفتى
صفة، معاذ الله أن تتبدلا
وأما عبادته، فأنت أمام رجل من السلف الصالح؛ فقد كان عفيف اللسان، لم تسمع منه لفظة بذيئة، لا غمز ولا لمز، لا تنابز ولا غيبة! كان كذلك برًّا بوالدته، يأتيها كل يوم ليرقيها، لا يتخلف يومًا! كما كان كثيرَ الحج والعمرة، كثيرَ الذكر، يمكث بين العِشائَين في المسجد، يبغض الشهرة، ولا يحب اللقاءات الصحفية، فسئل عن ذلك، فقال: عندي فوبيا صحافة!
إنتاجه ومؤلفاته
خلّف الشيخ آثاراً كثيرة بين بحوث وكتب ومقالات؛ فقد كانت له بحوث كثيرة في الاقتصاد الإسلامي، ومن كتبه:
- التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب.
- القانون الإداري.
- العلاقات الدولية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة.
- مخاطرات حول المصرفية الإسلامية.
ومن مقالاته:
- تجربتي في الحوار مع الآخر.
وفاته
وبعد صراع طويل مع الباطل، وحياة مليئة بالعطاء توفي ـ رحمه الله ـ سنة 1434هـ، تاركاً لشباب الأمة وشيوخها نبراسًا به يُحتذى ، ومثلًا به يُقتدى.
سيظل ما أفناه سالف عمره
قصصاً تسطر في الصفات شمائلا
تابعني