أبي، أريد أن أصبح يوتيوبر

علاج المشكلات يبدأ من التصالح مع الواقع والاعتراف به، أما المكابرة وإهمال الحقائق من حولك فيحيلك حتمًا إلى سلوك طرق بعيدة جدًا عن إحراز حلول ناجعة، هل استطاع طبيب يومًا علاج مرض دون أن يشخص حالته بعمق وبشكل صحيح؟! بالطبع لا، من هنا فأنت ونحن أيضًا مطالبون بالنظر حولنا واكتشاف ما لحق بالحياة من تطور، بل ومسايرته ومحاولة الإلمام به قدر الممكن حتى نكون حاضرين في مشهد أبنائنا، فاعلين في توجيههم إلى الطريق الصحيح.

حياة وطموحات

لا تستغرب حين تسأل طفلك ماذا تريد أن تصبح حين تكبر؛ فيجيبك بشيء من قبيل؛ أريد أن أكون “يوتيوبر” أو “جيمرز” أو “ستريمر”، ما هذه المسميات والوظائف التي لم نعهدها من قبل؟! أين منك يا بني من الطبيب أو المهندس أو المعلم أو الفقيه! طفلك لن يكون لديه الإجابة المُثلى على سؤالك أو بالأحرى تعجبك الأخير، فهو ينهل دون وعي من مصادر تقنية ومنصات اجتماعية تجعله يرغب في أن يصبح تلك المسميات السابقة، ولا حرج إن كان حقا ذا هدف سامٍ وطموح عالٍ.

طفلك يصنف من جيل ألفا -مواليد ما بعد عام 2010- تجمعهم عدة خصائص ومميزات تختلف كثيرًا عن الأجيال السابقة فهم سريعو التعلم وتوفرت لهم مصادر المعرفة أكثر من غيرهم بفضل الله ثم التقنية، ويمتازون بمعرفة أفقية مبهرة، يكفي أن تخبره بمعلومة لتجده يسابق شفتيك للبحث عنها للتأكد من صحتها أو لمعرفة تفاصيلها، لذا فإن تعلمهم شخصي للغاية، ويتمثلون في أنفسهم أسلوباً تشكيكيًا نقديًا لا يستسلم لكل ما يقدم لهم، بل يشملونه بكثير من التدقيق والبحث والتأكد، كما أن هذا الجيل ولدوا وكأنهم خبراء في التقنية منذ نعومة أظفارهم، يحبون الذكاء الاصطناعي وسرعة العمل ويميلون للتواصل بين بعضهم البعض من خلال وسائل التواصل الاجتماعي على مدار الساعة، لعبهم فردي في مجمله وتجاربهم شخصية غير جماعية، لذا لا يميلون للاقتصاد التشاركي ولا العمل الروتيني، يرون أنفسهم اجتماعيون ومنفتحون تماما كما أنت تراها بعين جيلك انطوائيين منكفئين على ذاتهم سريعي الملل !

عالم صناعة المحتوى المرئي عبر الإنترنت من فيديوهات ترفيهية إلى ألعاب؛ مجال مبهر جدًا لطفل صغير لا يفكر إلا في اللعب والحرية والانفكاك من الواجبات، يغلب على ظنه أن مشاهير اليوتيوبر أو الجيمرز لا يفعلون شيئًا سوى المرح واللعب، لسان حالهم يخبرك أن هذه العالم يعزز ذاتهم ويستنطق جوانب الإبداع لديهم ويكسبهم مهارات التعامل مع الكاميرا وتحرير اللقطات وحسن الأداء في الحديث وعلاقات اجتماعية أخرى ممتدة بطول حبال الإنترنت التي تصل العالم وتلفه لفا، مع كثير من صرر المال والأهم من ذلك شهرة واحتفاء منقطع النظير من قبل متابعيهم، ليصيروا يومًا بعد يوم أيقونة بالنسبة لهم، أيقونة تستحق أن تتبع في خطواتها وصولًا إلى أن يحلم هؤلاء أن يصيروا يومًا ما مثلهم.

بين المنح والمنع

ما الحل إذن في إنقاذ أولادنا من أوحال التقنية وما ينتج عنها من مثل هذه السلبيات والأمنيات الخاوية؟ لتعلم عزيزي القارئ أن المنع الكامل والتحكم المطلق فيما يمكن أن يراه أبناؤنا عبر الإنترنت هو أمر صعب المنال، ذلك أن وهج التكنولوجيا والألعاب ومواقع التواصل الاجتماعي صار من القوة بحيث يمكنه أن يجتاز أعتى الأسوار الشاهقة التي تحيطهم بها، سواء عبر أصدقائهم أو من خلال الالتفاف على تلك القيود أو غير ذلك، وبفرض أن هذا الاجتياز لن يحدث؛ فإن أبناءك سيكونون أمام مُعضلة من نوع مختلف؛ وهي العزلة وفقدان الاتصال الاجتماعي مع محيطهم وجيلهم، بسبب عدم تلاقيهم مع ذلك المحيط والجيل في اهتماماته من تلك التي تكون في الغالب ذات علاقة بالترند والتكنولوجيا. كما أن مسؤوليتنا نحن الآباء أن ندرك أنه في يوم ما سينفصل الأبناء عنا بذواتهم وسيكونون كيانًا مستقلًا فإن أحسنا توجيههم وإرشادهم منذ الصغر فإنهم بعد توفيق الله سينشؤون نشأة صالحة كما يحب الله ويرضى عندها نكون أهلا للرعاية التي حملنا الله إياها.

إن مشاركة الأبناء اهتماماتهم ولو جزئيًا سوف تمكننا من وضع أيدينا على مكامن الخطر التفصيلية التي يواجهونها، ومن ثم ننبههم إليها ونبني فيهم مناعة قيمية يواجهون بها تلقائيا تلك الأخطار، فعلى سبيل المثال يرغب أبناؤك بمتابعة بعض قنوات اليوتيوب الجاذبة، تخبرهم كيف يختارون المقاطع الجيدة وكيف يضيفون قنوات هادفة في متابعاتهم ليظهر لهم اليوتيوب بعد ذلك مرئيات مقترحة في فلك ما يتابعون من قنوات آمنة، ثم تشاركهم مشاهدة أحد هذه المرئيات ذو الرسائل المباشرة الجيدة، ومن بين سطور هذا الوسط يمكنك أن تمسك ببعض الرسائل غير المباشرة التي -إذا وجدتها- تقلل من قيمة الحياء أو تشجع على الكذب أو غير ذلك، ومن ثم تشير لأولادك إلى تلك الرسائل الخفية وتفهمهم أن مثل هذه الرسائل تؤثر فيهم دون أن يدروا، وأنهم يجب عليهم مواجهتها والانتباه إليها. كذلك من الجيد خلال مشاركتهم اهتماماتهم أن تربي فيهم ملكة النقد، بمعنى أن تكثر أمامهم من طرح الأسئلة على الأفكار المختلفة التي تطرأ لهم، ويترتب على ذلك في الغالب أن يتبعوك في ذلك الأسلوب، ومن ثم لا ينساقوا خلف فكرة ما دون تمحيصها وتقييمها على أشد وجه.

الخروج من الدائرة

الحل من وجهة نظري يكمن في اقتراب الآباء والأمهات من أبنائهم وتفعيل أهم خصائص اليوتويب وهي “وضع تقييد المحتوى” التي تساعد في حجب المحتوى الذي يُحتمل أن يكون مخصصا للبالغين،  فإذا زادت مطالب الابن في أن يصبح يوتيوبر فأخبره أولا بأن إدارة اليوتيوب تمنع إنشاء قناة لمن هم دون سن الثالثة عشر لضرر الموقع عليهم فإن كان ولابد فما عليك إلا مشاركته في إنشاء قناة باسمك تكون أنت مشرفا عليها وتناقشه بالحسنى حول هدف القناة ومقصدها وما القيمة التي ستقدمها للآخرين ويفضل أن تكون القناة في تطبيق يوتيوب الأطفال، كما يمكنك جعل القناة “خاصة” بحيث لا يراها إلا من تدعوه بإرسال الرابط إليه مباشرة أو الموافقة على من يريد الاشتراك في قناتك، وقد يرفض الأطفال الأكبر سنا هذا الخيار لأنهم متلهفون لعدد المشاهدين وكثرة المعجبين فكن مستعدا للتحاور معهم لتوضيح أنه حل وسط يحتاجون إلى التعايش معه. من النصائح المهمة إذا جعلت القناة “عامة” يشاهدها من يشاء دون قيود وترغب في بناء سد منيع ضد التمر والتعليقات المسيئة أن توقف قدرة المشاهد على التعليق والنقر على زر الإعجاب أو عدمه. كما ينصح بشدة بإخفاء البيانات المهمة والحساسة أو التي قد تؤدي إلى التعرف على الحساب ويمكنك القيام بذلك من خلال إعدادات إخفاء الهوية وكن بجانب طفلك دائما وتأكد من محتوى الفيديو قبل نشره حتى لا يظهر ما يجب أن يُستر. من الجيد كتابة عقد واضح البنود مع ابنك ليعرف ما له وما عليه حول المواضيع الآنفة حتى تكونوا في مأمن من المخاطر التي تحدق بطفل بريء لم تبصر عينه الحياة بعد ولم يعتركا بما يكفي.

كما يقال، التجربة خير برهان، لقد رأيت أطفالًا تخلوا عن قنواتهم وأحلامهم بعد أن عرفوا مدى الجهد الذي يبذله اليوتوبر، وجدوا عملا شاقا وغير مسلي دائما؛ خلاف ما يتوقعون فبعد جمعهم المال من حصالاتهم الصغيرة ليشتروا بها أدوات التصوير ثم يتدربون على استخدامها ويجلسون الساعات الطوال في المكان والزاوية المناسبة ويتحدثون أمام الكاميرا لعدة مرات ثم تحفظ المقاطع وتنقل على أجهزة الحاسب ليبدأ بعدها استخدام برامج تحرير الفيديو وقطع الأجزاء غير الضرورية وإضافة مقدمات إبداعية مع مجموعة من المؤثرات والنقلات ثم إخراجه بالشكل النهائي ورفعه على القناة ليبدأ بعد ذلك الترويج له وما أدراك ما الترويج؟! كل هذا ينسيهم الأحلام الوردية وينقلهم من الضيق إلى الأفق، فليس من رأى كمن سمع. دعهم يدركوا ذلك بأنفسهم وأنه ليس كل من هوى الرسم أصبح رسامًا ولا كل من شجع كرة أصبح لاعبًا وأن من راقب الناس مات همًا. في المقابل وحين الحديث على من يجلس أمام الشاشة فإن الأطفال من أكثر المشاهدين لليوتيوب وللأسف الشديد وذلك في تحدٍ صارخ لقوانين اليوتيوب حسب مركز بيو للأبحاث ( Pew Research Center ) ومع ذلك فإن الأمر لا يحرك ساكنًا لدى الموقع الأحمر إذ هو من مصلحته وإن ادعى غير ذلك وأصبح عذره أقبح من ذنبه.

أولويات وبدائل

لا يعني ما سبق بأي حال من الأحوال الاستسلام لمواد عالم التقنية وترك أبنائنا ضمنها دون رقيب أو حساب، لا يعني قول نعم لكل شيء، بل يعني

الانخراط الواعي في ذلك العالم وبيان محاسن ومخاطر التقنية، وكيف يحقق التوازن بين جوانب الحياة مع أهمية الحفاظ على علاقة جيدة ومتينة بالأبناء، مذكرا لهم بنعم الله عليهم ومراقبة الله لهم وغرس محبة الله في قلوبهم الغضة الطاهرة التي اعتادت بنقائها على الاستجابة لنداء الفطرة دون تردد وتوان لتكون هذه الخشية سدًا مانعًا بعد توفيق الله لحسن استخدام التقنية

مع أهمية تفعيل المراقبة المُخففة والعين المشفقة، وتحديد أوقات معينة لا يتخطونها في استخدام تلك التقنيات، ذلك التحديد وذلك المستوى من الرقابة سيدفعهم دفعًا لإيجاد بدائل أخرى تملأ أوقاتهم، ومن ثم يحين دورك في اقتراح ما تراه مناسبًا من ألعاب عقلية أو نشاطات يدوية أو قراءة كتب أو مشاهدة سلاسل قصصية هادفة، أو غير ذلك مما هو متوفر ويؤدي بهم إلى طريق تربوي مصان، طريق يحميهم من منتجات عصرهم الضارة ويبني فيهم ما يحتاجون إليه من مهارات ومرجعيات دينية قيمية معتدلة وأصيلة.

خالد علي المرحبي، مهتم بالتقنية والابتكار وصناعة الأفكار. أتعلم كل يوم، وأحاول أن أجيب على سؤال: كيف نعيش حياة أفضل؟ يسرني أنك وصلت إلى مدونتي الشخصية، وأرحب بالتواصل معي في أي وقت.

‎مؤخرة الموقع