الراحلون بهدوء

منذ أن عرفت الدنيا وأبصرتها، عرفته رجلاً عظيمًا كبيرًا مَهيبًا وجيهاً، نحلم به ونحلم أن نعيش معه، أوقاتنا معه هي ألعابنا وأحاديثنا معه هي أفراحنا وبقاؤنا معه هو أمنياتنا. كان ذا حلم وتؤدة وأناة، وسكينة وتقًى وزكاة، قليل الكلام كثير التأمل، بشوش الوجه دمث الخلق، يحب الفكاهة والأنس، يحبه من يراه ويُصغي إليه من يتحدث معه، مجلسه عقل وحكمة، يَفِد إليه من يرجو صلحًا أو حلًا، لم يخاصم أحدًا ولم ينقل لنا أقرانه أن حدث ذلك يومًا، وإن خاصمه أحد كَظَم ألمـًا وقال سلامًا، أنقى وأطيب من رأيت، طيب المعشر، كأنه الذهب الإبريز والناس معادن؛ إنه جدي “درعين بن علي” رحمه الله!

فقده وما فقده؟ غصة ومرارة، لوعة وكمد، ندبات في القلب لا تزول وإن تعاقبت الأيام والسنون، قلب يشتعل وجذوة في الصدر لا تنطفئ ولم تطفئها آخر الدمعات المسكوبة بعد جفاف دمع العين إلا ما كان من تلك الكلمات الملكات المسكنات الساكنات من أفواه المكلومين بتمتمة لا تكاد تسمع “إنا لله وإنا إليه راجعون”. نحن منك يا الله وإن انتزعت أرواحنا، وإليك يا الله وإن تباعدت الخطى والأيام أملًا في جوارك وأي جوار أعظم!

لا تزال جدران حجرته وفناء بيته ممتلئة بالجلال والمهابة، وإن خلا سريره من ذلك الجسد الذي هده المرض وأرهقه التعب. المكان مزدحم بالذكريات فلا تكاد تجد لك فسحة، الصمت سيد الموقف. أعين المعزين الدامعة وقلوبهم الواجفة تتحدث وتسلي بعضها بعضًا بصمت لا تفهمه سواها. كلٌ يبحث عنه فلا يراه، كما قال القائل:

يعزّ علي حين أدير عيني

أفتش في مكانك لا أراكا

ولم أرَ في سواك ولا أراه

شمائلك المليحة أو حلاكا

لم أكن لأصدق حدوث الظلام دامسًا في المكان والشمس صامدة في كبد السماء، آه كم يفارقنا الكرى حين تحضر تلك الملامح الطاهرة المتوضئة زائرة وكأنها تقول لا اجتماع للذتين كما لا عيش لرجل بقلبين. سكنت أصوات العصافير وذبل الورد ويبست المروج واضمحلت ألوان الربيع فترى دنيا غير التي تعرفها، وصدق من قال:

يا نفسُ دُنياكِ تُخْفِي كُلَّ مُبْكِيةٍ

وإنْ بَدَا لكِ منها حُسنُ مُبْتَسمِ

لا تَحْفِلِي بجنَاها أو جِنايتِها

الموتُ بالزَّهْرِ مِثلُ الموتِ بالفَحَمِ

كان -رحمه الله- صابرًا في بلائه ما شكا ولا تأوّه، راضيًا بقضاء الله وقدره. سلت روحه الطاهرة ورحلت بهدوء عجيب كأنها تعرف ديدن حياته وهدوء نفسه، رحل في أفضل أيام الأسبوع وفي أفضل ساعاته، بعد عصر يوم الجمعة التاسع من شهر جمادى الآخرة من عام خمس وأربعين وأربعمئة وألف بعد الهجرة النبوية المطهرة على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تسليم.

رحل ورحل بعده بأيام شقيقه ورفيق دربه “محمد” صابرًا محتسبًا على ألمٍ ألَمَّ به وكمَدٍ، رحم الله وجوهًا قبضتها وضاءة مبتسمة نحسبها عند الله خاتمة تُحمد، رحل رجال قلوبهم تعلقت بالمساجد فلم يزل صف المسجد به خلل لا يُسد، رحم الله أحبابًا تصافوا في القبور بجوار بعضهما إلى الأبد، فقد كانا، ولا يزالان، يعلماننا دروس ورسائل راسخة تخلد، وبقيت قلوبنا في جراح لا تضمد.

كما قال من قال:

في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ

أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ

قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا

عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا

سلوة الأرواح أنها سنة الله وقدره وكلنا إليه راجعون، حزن النبي -عليه الصلاة والسلام- وبكى وقال: “العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون”

حق لكل مكلوم أن يحزن، ولكن يجب حمل المصاب على الصبر والرضا بقضاء الله وقدره ويستبشر بالخير الموعود به في القرآن والسنة، فقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وقال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، والمراد بالصلوات: الثناء عليهم من ربهم عز وجل بأنواع الثناء، وذكرهم في الملأ الأعلى. وقول النبي عليه الصلاة والسلام: “لا يصيب المسلم هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا أذًى حتى الشوكة إلا كفر الله بها من خطاياه” وقوله عليه الصلاة والسلام: “من يرد الله به خيرًا يصب منه”. وقال ابن القيم -رحمه الله-: “وقد وعد الله الصابرين بثلاثة أشياء، وكل واحد خير من الدنيا وما عليها، وهي: صلوات الله عليهم، ورحمته لهم وتخصيصهم بالهداية، فبالهدى خلصوا من الضلال، وبالرحمة نجوا من الشقاء والعذاب، وبالصلاة عليهم نالوا منزلة القرب والكرامة”.

رحلوا وذكراهم باقية، تحيط بنا من كل جانب وفي كل حين كأنها تقول: كونوا على مراد الله، كما أمركم الله وكما اجتهدنا في تربيتكم. رحمكم الله أجدادي بأعلى من ذاك القدر وأجل من هذا الصبر، وجعل مثواكم جنات الفردوس الأعلى، ونعم الجزاء هو!

خالد علي المرحبي، مهتم بالتقنية والابتكار وصناعة الأفكار. أتعلم كل يوم، وأحاول أن أجيب على سؤال: كيف نعيش حياة أفضل؟ يسرني أنك وصلت إلى مدونتي الشخصية، وأرحب بالتواصل معي في أي وقت.

‎مؤخرة الموقع