مع الأسف الشديد لقد نجح !

الأسف إعراب عن عدم الرضا بشيء أو مجيئه مخالفًا للرغبة ومخيبًا للآمال والتطلعات، يشعر صاحبه بحزن بحسب بعد ذلك الشيء، ويكون استعماله محمودًا إذا فارق الإنسان معالي الأمور ومذمومًا إذا قصد به الحسد وما أشبهه من المساوئ والعيوب إلا أن مقالنا يحمل مفارقة عجيبة؛ إذ كيف يجتمع الأسف مع النجاح في أمر ظاهره أنه محمود بإذن الله؟!

ما النجاح؟

النجاح كلمة رنانة تتشوق لها النفوس وتنشرح لها الصدور ويمتلئ القلب فرحًا بها، يكفي أنها مطلب أهل الأرض قاطبة، يسعى إليها البشر من مختلف مشاربهم وألوانهم وأجناسهم وأعراقهم ومللهم ونحلهم، مفادها إدراك الغايات والاستغلال الأمثل للمواهب والقدرات والتغلب على المتاعب والعقبات. وإذا أمعنا النظر في معايير النجاح والفشل نجدها معايير نسبية ليست ثابتة في كل عصر ومصر، بل تتفاوت بتفاوت معتقدات وأفكار كل مجتمع؛ فالمجتمعات المادية تحصر النجاح في تحقيق الثروة والمنصب، أو كما يقولون: معك دولار فأنت تساوي دولار، معك مليون فأنت تساوي مليون! وفي المجتمعات الأخلاقية نسبيًا -كاليابان مثلًا- تجد معيار النجاح في مدى تحقيق الخلق الإنساني والمثالية، ومنهم من يراه مقتصرًا في أن يصبح مشهورًا أو مستقرًا في حياته الزوجية أو تأمين مستقبل أبنائه أو إشباع غرائزه وغيرها من الأوهام والضروب في شُعَب الحياة.

وإذا اتسع أفق الإنسان وأعمل عقله وكمل نضجه تبين له حقيقة أن النجاح يمكن أن يملأ الحياتين الدنيوية والأخروية كما قال تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: (اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح وخير العمل وخير الثواب وخير الحياة وخير الممات)، وإذا كانت الباقية مقدمة على الفانية فإن النجاح الحقيقي يكون أولًا في طاعة الله ثم تأتي الدنيا بصنوفها كما يشاء الله.

النجاح المختطف

بعد أن ارتفعت أسهمه في التجارة، وحاز أعلى الشهادات، ونال أرفع الأوسمة، وتصدرت صورته البرودكاست والجرائد، وصار حديث الموائد.. يشار إليه بكل بَنان في كل وقت وأوان!

يعود إلى منزله وقد نام أطفاله؛ فلا يستمتع بهم ولا يستمتعون.. لكنه يشار إليه بالبنان!

يعود آخر الليل لينام جثة هامدة لا يستفيق إلا ضحًى.. لكنه يشار إليه بالبنان!

لا وقت عنده لزوجٍ ولا ولد، ولا صديق ولا حميم.. لكنه يشار إليه بالبنان!

يموت قلبه بين عينيه وتزهق روحه بين يديه.. لكنه يشار إليه بالبنان!

ثم يصور للآخرين أن هذا هو النجاح وما يجب أن يكون عليه الإنسان وإن خسر ما خسر في سبيل الوصول إليه في اختطاف لهذا المفهوم الرائع وتشويه متعمد له.  لقد طغت مفاهيم النجاح في هذا العصر مختلف مناحي الحياة وترددت على الأسماع حتى تشبعت بها القلوب والعقول، وأَنْسَتْ تلك مفاهيم أعلى منها وأجلّ كالصلاح والفلاح والفوز العظيم والفوز الكبير؛ ذلك أن النجاح الحقيقي حين يقال في الرجل: نعم العبد.

نعم العبد

يقال “نعم العبد” حين يكون المرء متكاملًا لا يطغى عنده شيء على شيء، حين يوازن بين حاجاته وحاجات أهله وحاجات أمته، حين يعطي للجسد حياته وللروح حياتها، حين يتغذى عقله كما يتغذى جسده، حين يعادل بين كفتي الميزان فلا تميل كفة على كفة؛ حينئذٍ فهو الناجح حقًّا، وحينها نقول: نعم العبد! وهذه مرحلة نحو النجاح الأعلى والأسمى والأبقى وهو الفوز برضا الله وجنات الخلود.

ولا يخفى عليك أخي القارئ نبأ النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولما أخبروا بها تقالوها -أي رأوها قليلة-، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر. وقال الثاني: أما أنا فأقوم ولا أرقد. وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء. فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ قالوا: نعم. قال: أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني!

وهذا الحديث مدرسة لكل قاصد نجاح؛ لأنهم أرادوا الخير وأرادوا التعبد وانقطاع القلب وكل تلك المعاني الرائعة، لكنها لم تكن على مراد الله؛ فالذي أراد منا صفاء القلوب هو الذي أراد منا أن نتزوج النساء ونعطي الأبدان حقها ونجمع المال وغيرها مما أحله وشرعه الله.

نحو النجاح الحقيقي

سيكون للتأسُّفِ حضورٌ إذا كان النجاح في غير مرضات الله وإذا كان النجاح المؤقت قد فوت علينا نجاحًا أعظم منه، وإذا كان النجاح في اجتياز مراحل طريق يقود للهاوية وإذا كان النجاح فيه خسارة لقريب أو صديق وغيرها من الصور الوهمية. ولذا؛ فإن النجاح الحقيقي يفتقر إلى قصد أعلى الغايات وأسماها مع اخلاص ومثابرة واستخارة واستشارة وصبر ومصابرة وتحديد أهداف وخوض تحديات وجهاد ومجاهدة؛ جهاد النفس ورغباتها، جهاد الدنيا وفتنها، جهاد الناس وكلامها…

لم يكن هذا النجاح بالأمر اليسير، بل هو شاق ويحتاج إلى بذل ومكابدة وعناء؛ حتى قيل في صاحبه: يا ويح من نجا، كيف نجا؟!

خالد علي المرحبي، مهتم بالتقنية والابتكار وصناعة الأفكار. أتعلم كل يوم، وأحاول أن أجيب على سؤال: كيف نعيش حياة أفضل؟ يسرني أنك وصلت إلى مدونتي الشخصية، وأرحب بالتواصل معي في أي وقت.

‎مؤخرة الموقع