الحياة اليوم ليست أبدًا كما الأمس، العالم يموج بمستجدات تقنية عميقة مؤثرة لا محالة في أنماط حياتنا كبشر، انظر حولك كيف سهّلت التكنولوجيا حياتنا؟! نحن جميعًا نستمتع بما أضافته لنا من امتيازات وأدوات، ذلك جانب مشرق يستحق منا الاحتفاء والامتنان، لكن ماذا عن الجانب الآخر القاتم الذي تسببت به؟! نعم هناك جوانب قاتمة كثيرة، أحدها ذلك التخوف الكبير من فقدان الناس وظائفهم وأعمالهم لحساب الميكنة والإنسان الآلي، أو ما يعرف اختصارًا بالإنسالة.
ما الإنسالة؟
تُعرف الإنسالة بأنها “جهاز ميكانيكي مُتحَكم به إلكترونيًا، يقوم بتنفيذ أعمال بعينها عوضًا عن الإنسان.” فيما توصف كذلك في تعريفات أخرى على أنها “آلة متحركة مزودة بحاسب يساعدها على القيام بأعمال تمت برمجتها من قبل.” إنها واحدة من أبرز ملامح الذكاء الاصطناعي، الشبه بالإنسان من حيث بنيته ومظهره ليس شرطًا فيها أبدًا، فهذا أمر ثانوي لا يدل بحال على المغزى الذي نقصده، فالمغزى الأساس هنا هو ما تقوم به الإنسالة من دور في الاقتصادات العالمية وفقًا لما هي عليه من برمجة وإمكانات. حسب تقديرات مؤسسة ماكينزي العالمية فإن الإنسان الآلي سيعزز نمو الإنتاجية العالمية سنويا بنحو 0.8 % إلى 1.4 % ، وسيسهم في رفع كفاءة العمال من خلال جعلهم يعملون في المسارات الصحيحة غير الروتينية.
أبعاد إستراتيجية
الإنسالة صناعة الإنسان، صممها في الأصل كي تيسر عليه حياته، لكن مع الوقت ومع التطويرات اللاحقة فيها، أصبحت مصدر تهديد بعد أمن، وما ذاك إلا لتميزها في أربعة أبعاد إستراتيجية تفوقت بها على الإنسان. أولا الأمن والسلامة فهي قادرة على ممارسة بعض المهام التي تشكل خطرًا جسيما على صحة الإنسان كالتعامل مع الآلات الحادة والمعدات الثقيلة ودرجات الحرارة العالية وغيرها. أما البعد الثاني فهو الجودة والإنتاجية؛ إذ تمتاز بالدقة المتناهية وقلة الأخطاء والبعد عن المراوغة والتفضيلات، وذلك في تفوق صارخ منها على جنس البشر. السرعة والاستمرارية بُعد آخر؛ فهي مُنجِزة حسب الوقت المحدد لها تمامًا ولا تحتاج للتوقف والراحة أو طلب عطلة، كما أنها لا تتأثر بتشتت الانتباه أو يكون عملها مشروط بأعمال الآخرين. أما البعد الأخير فهو التكلفة والاقتصاد فتشغيلها على المدى البعيد يقلل من النفقات ويوفر قاعدة للتوسع بتكلفة أقل مقارنة بتكاليف العمال من البشر.
وظائف في مرمى مدافع الإنسالة
يمكن تقسيم الوظائف التي يقوم بها البشر منذ الأزل وحتى الآن إلى خمس فئات؛ الفئة الأولى هي تلك التي يستخدمون فيها أجسامهم وجوارحهم لتحريك الأشياء وإنشاء سلع مادية، وهي الفئة الأساسية والأكثر استهلاكا على مدى قرون من الزمن. الفئة الثانية وظائف يستخدم البشر فيها آلات يقومون بقيادتها أو توفير المواد الاستهلاكية التي تحتاجها لإتمام عمل ما. نجد في الفئة الثالثة الوظائف التي يستخدم فيها الإنسان برنامجا يؤدي مهام محاسبية أو تحكم أو تسهيل تواصل وتبادل معلومات. أما الفئة الرابعة فهي الوظائف التي تقوم على كتابة وبناء تلك البرامج (البرمجة) سواء أكان عملًا مستقلًا أم ضمن مجموعة يكون فيه اتصالًا مع أشخاص آخرين. أما الفئة الخامسة والأعلى فهي الوظائف التي تحتاج إلى التفكير وحل المشكلات وإدارة الآخرين وتحفيزهم والعمل على ابتكار حلول جديدة نافعة بإذن الله.
نجحت الإنسالة في السيطرة على الفئة الأولى منذ سنوات طويلة وحسمت الصراع لصالحها وما لبثت أن تقدمت حتى أثبتت تفوقها أيضا على الإنسان في الفئة الثانية فنجدها في المصانع أنموذجًا مثاليًا يحكي قصة نجاح رائعة. لم تقف عند هذا الحد بل استمرت في التقدم تلتهم وظائف الفئة الثالثة وما تزال تأكل من تلك الكعكة حتى الآن. يُجمِع الخُبراء على تمكنها وتفوقها في هذه المرحلة أيضًا لكننا ما نزال نتبارز في هذا المعترك؛ تاركة لنا الفئة الرابعة والخامسة فقط. حسمها للصراع في الفئات الأولى لا يعني توقف البشر عن العمل فيها؛ بل تدني الأجور والمنافسة وجعلها وظائف لا تسمن ولا تغني عن جوع، دافعين الجزية للإنسالة، واقعين تحت رحمتها التي لا تحس بنا البتة.
تسارع وتيرة المعركة
على العكس من النظرة السائدة المقبولة ربما التي تتحدث عن تمكن الإنسالة من إزاحة البشر عن كثير من وظائفهم والاستفراد بها سريعا؛ إلا أن فرص حدوث ذلك على نطاق واسع في المستقبل القريب أمر مشكوك فيه، خصوصًا إذا ما وجهنا نظرنا قليلًا إلى بعض التفاصيل المهمة في هذا السياق، والمتعلقة في الأغلب بتصنيفات المهن المختلفة ومدى ملائمتها للأتمتة من عدمه، والمتعلقة كذلك بتصنيفات الدول من حيث الاقتصاد وقوته أو ضعفه وما يترتب على ذلك من أجور العاملين من حيث هي زهيدة أو مرتفعة، كل هذه العوامل وأكثر تتحكم بشكل أو بآخر في سير الإنسالة ونسب استحواذها على وظائف البشر والمدى الزمني لذلك الاستحواذ.
وعلى سبيل المثال تنخفض أيضًا نسبة الوظائف المعرضة للخطر في دولة مثل فيتنام من 70% إلى أقل من 15% حينما يوضع في الحسبان الاقتصاد الموازي أو غير الرسمي في البلاد، بينما في دولة أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية ذات الاقتصاد القوي والدعم منقطع النظير لتمكين الآلة على حساب البشر في الوظائف والمهن المختلفة؛ فإن 47% من الوظائف ستكون عرضة لإزاحة البشر منها على حساب الإنسالة خلال العقود المقبلة، وذلك طبقًا لدراسة أجريت عام 2013 من قبل كارل فراي ومايكل أوزبورن من جامعة أوكسفورد، وتلك الإحصائيتين الأخيرتين المتعلقتين بفيتنام والولايات المتحدة الأمريكية يدللان على ما تلعبه الفوارق الاقتصادية الكبيرة بين الدولتين من دور في تسريع وتيرة إحلال الآلات محل البشر في الوظائف المختلفة في إحداهما، وتقليل تلك الوتيرة في الأخرى.
ميزان القوة
تلك اللحظة التي يتحول فيها العالم نحو الاعتماد أكثر من ذي قبل على الآلة بدل الإنسان آتية لا محالة، وفي طريقنا نحو هذه اللحظة لا يجب على الأفراد أن يستسلموا وينتظروا فقدان وظائفهم وحلولهم في حيز البطالة، بل يجب العمل على الارتقاء بوظائفهم إلى الفئة الرابعة والخامسة وتطوير مهاراتهم من الآن وصاعدًا؛ بحيث تتواكب مع المستجدات أولًا بأول، وكذلك الاستفادة من البرامج التعليمية عن بعد التي توفر المعرفة في قوالب مرنة للغاية؛ كي تواكب احتياجات الصناعة الحديثة وتوفر لها ما تتطلبه من مهارات، خصوصًا مع ما سيفرزه المستقبل الحافل بالتقنية من وظائف ومهام جديدة كليًا. أثبتت بعض الدراسات أن 12% إلى 25% من الوظائف ستتغير خلال جيلين وهذا رقم كبير ينبغي الاستعداد له، كما أن التخصصات التقنية والهندسة والصحة هي الأكثر استقرارا وحاجة للتوسع في المستقبل.
ثمة وظائف عصية على الروبوت أن يقوم بها بسبب طبيعتها وحاجتها إلى مزيج من المعرفة الضمنية والحدس البشري والعقلانية والتعاطف كمهنة المربي والسياسي والقاضي والرياضي المحترف وإن كانت ستلعب دورا مهما في مساندتهم دون القيام بعملهم.
نقطة قوة البشر في امتلاكهم للمعرفة الضمنية وهي نوع من المعرفة يصعب نقلها إلى شخص أو جهاز آخر عن طريق الكتابة أو التعبير عنها لفظيا. إن إلمام الحاسوب بكل شيء يمكن معرفته عن السمك مثلا لا يعني بالضرورة أنه يستطيع اصطيادها ! كما أن البشر لديهم قدرة أعلى على التكيف والتأقلم وإعادة التموضع في وجه الظروف والمستجدات إضافة إلى قدرتهم على العمل في بيئات لا تشترط فيها المثالية والكمال كما تطلب الإنسالة المتمردة.
لمن الغلبة؟
لا يجب أبدًا على الإنسان أن يساوره أي قلق بشأن رزقه؛ فمن خلقه لن يتركه، والرزق شيء محسوم أمره مقضي صفته وهيئته في علم الله منذ الأزل، لكن في الوقت ذاته لا يحجبنا هذا عن الأخذ بالأسباب والسعي الدؤوب نحو تحصيل الرزق وتطوير الذات والتكيف مع المستجدات، وقبل كل هذا التماس مرضاة الله واتقائه، فكما يقول الله تعالى “وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ” (الطلاق/2، 3).
يمكن القول أن ملامح هدنة طويلة تلوح في الأفق بين المعسكرين، تملي الإنسالة فيها شروط المصالحة؛ لتقدمها في ثلاث جبهات وفئات مفادها أن تضع الحرب أوزارها وأن نعيش بسلام جنبا إلى جنب نتشاطر الفرح والحزن والحلو والمر والحياة والموت، إذ تركز الإنسالة على الوظائف التي تحتاج إلى القوة الجسدية والعمل الروتيني والحسابات الهائلة بينما يركز البشر على إدارة وتنمية الموارد البشرية وصنع القرار والتخطيط الاستراتيجي والعمل الإبداعي. حين نلتزم بقواعد العمل الجديدة نكون جميعا منتصرين ننظر إلى مستقبل مشرق أكثر عدالة ورضا لكلا المقاتلَين.
تابعني