من يفصل الدال عني؟ !

كان يدعى “يا محمد” قبل الإسلام وبعده، فيأتيه الأعرابي من أطناب باديته وهو -عليه الصلاة والسلام- في حفاوة ومنعة من أصحابه الأطهار فيقول: يا محمَّد! مُرْ لي مِن مال الله الذي عندك، فيلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلم وهو يضحك، ثمَّ يأمر له بعطاء ولم يستنكف، و قد قال تعالى في تفصيل جميل وإثراء بديع لمن ينشد العزة الحقيقية: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعًا} فأجمل وفصّل و فصَل ليوصلنا إلى حقيقة قد يتغافل عنها أو يجهلها جلّنا كما قال تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم}.

لم أبتغِ بهذا المقال فصل الخطاب في شأن الألقاب، ولم أَرُمْ به تحريرًا فقهيًّا أو توجيها اجتماعيًّا؛ بل هو أمر يخصني وحدي، لا أدعو إليه، ولا أناظر عليه، ولا ألزم به غيري، ولا آمر به من جاء بعدي، ولا أقصد أني ذو شأن رفيع يمنحني التميز عن البقية أو صاحب مكانة أو وجاهة بل أنا من عامة الناس في عافية وستر أسبله الله علي من نعائم فضله وتمام جوده وسخائه. ولو كشفها لفر الخلق مني، لكنه انحراف واضح أتوق لتقويمه مع وعي بصعوبة المهمة، شيء حاك في نفسي، وضاق به صدري، وكاد يؤرق مضجعي، ويُذهب من الإخوان مطمعي؛ فرأيت من حسن الصحبة ومن حق الإخوة ونبل الرسالة، أن تكون مقالتي لطيفة في معناها، صحيحة في مغزاها أوجهها لمن هم في دائرتي وأنا في دائرتهم، لمن أتقاسم معهم جل الأوقات، لمن نتوافق في الأفكار والآراء والمشاعر علها تكون مخرجا لنا ؛ لألتمس بها من كل أخٍ أو حبيب، أو صديق أو قريب، أن يجيب ويقول: نعم أنا، عن سؤالٍ غريب:

من يفصل الدال عني؟!

بين موافق ومخالف

 لا يخالجنك الشك أني أعرف ما قيل في شأن الألقاب، وما رآها بعضهم حُسنًا وآخرون شيئا منكرا من الحكمة البعد عنه لأنه من قبيل التكلف المذموم، وما رآها بعضهم تقديرًا واحتراما وآخرون كبرًا واغترارا، أو ما قيل فيها إنها إنزال الأناسيِّ منازلَ هي لهم أو ما رُدَّ بأنها لا منازلَ ولا هي لهم.

أو تظن أنه لم يبلغني ألقاب علماء وأفاضل قد عجّت بها الكتب وثقلت وتمايلت بها الرفوف من قديم، أو علماء وأفاضل قد نفضوا أيديهم وتبرؤوا ممن زاد في اللقب باعتبارها زخرفا زائفا.

ولا أنتظر منك أن تخبرني بأن الأمر قريب العلاقة بالأعراف والعادات، فقد يستحسنه قوم ويرونه ودًّا ولطفا، ويستقبحه غيرهم ويرونه من قبيل الكبر والعجرفة، وتغيير ما رسخ في أذهان الناس وتوجهات للأفضل أمر يطول العمل لإدراكه و يحتاج زمنا طويلا.

ولست الآن بصدد الحديث عن العلم وفضله ومنزلة أهله وعن السعي الخالص في قضاء حوائج الناس وعن الاجتهاد وبذل الوسع في التعلم لرفع الحرج عن الأمة، ولا عن العقبات التي تعرض للإنسان في سيره وبلوغه أعلى الدرجات والمراتب في الدنيا والآخرة، ولا عن الجمع بينهما كما قال تعالى: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}.

فكل هذا لم يكن مني ببعيد؛ بل علمي وعلمك فيه سواء، لكن كما أخبرتك من قبل أن الأمر يخصني وحدي، لا أَلوي فيه على غيري، ولا أقدح في نوايا البرايا، ولا أرمِي من خالفني بالخطايا.

لماذا يؤرقني؟

 كما إنني سأتكلف عناء الجواب، وإبداء كثير الأسباب؛ فرجائي منك أن تتبصّر وتسعى لفك رموز الخطاب وإدراك فحواه. وتُذهب عني ما أثار مواجعي في أمر الألقاب، فإن فعلتَ فإني إذًا لمن الشاكرين !

وأول الأسباب خطأُ ظنِّك حين تناديني يا دكتور، أنك بذلك تدخل على قلبي السرور!

فلْيَنْمِ إلى علمك أني به لا أُسَرّ، بل به ومنه أُضَر؛ ذلك أنه لم يكن يومًا دليلًا على فضل، ولا علامة على علم؛ بل صارت الشهادات تُشترى كما يُشترى ما رخص وما غلا !

 ثم إنها في أعين البعض تقديرٌ وتشريف، والحق أنها تحميلٌ وتكليف ثقيل !

ثم هي -عندي- قد تحمل بين أحرفها من معاني  الجفوة ما ينغص علي مُتَع القرب والألفة ويصرفني عن التناغم الذي يجمعني بأقرب الناس مني؛ فإني لا أرضى من ولدي أو زوجي أو من أبي وأمي أن يدعوني بها؛ وما ذاك إلا لقرب المنزلة؛ وكذلك كل حبيب وقريب له عندي من المنزلة ما يرفع الكلفة ويزيد في الألفة.

ثم إن الله كتب أن العزة في طاعته، وأن الإكرام في مثوبته، وليس في ألقاب جوفاء لا تسمن ولا تغني من شيء !

وآكد من ذلك أنها قد تكون داعية النفس إلى الزهو والتيه والعجب  والخيلاء؛ ألم تر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلًا يُثني على رجل، فقال: “قطعت عنق أخيك!”.

وحقها ألا تتجاوز مواطنها في مؤسسات الأعمال، إذ إنها دلالة على وظيفة عملية وليس مكانة اجتماعية، فهي في الوظائف اسم على مسمى، وفي العلاقات اسم على غير مسمى! وما أجمل قول الإمام مالك -رحمه الله-: “إنما فسدت الأشياء لما تُعدي بها منازلها”.

ثم ماذا ننتظر من مجتمع يمعن في تقديس المظاهر ويكاد يعبد أصحاب الألقاب، بل ويبذل لهم العطايا وينحر القرابين، يزيد الكيل لكل ذي لقب، ويبخس حق مَن كان بلا لقب؟! 

أليست النتيجة بث العداوة والحسد والبغضاء بين الناس؟!

ثم إذا نظرت إلى أصحاب الألقاب رأيت منهم من يقطر حكمة وعلما ورأيت من جلهم ما يزيدك عدوا عنهم، أسماء نسبت تجاوزا لغير مستحقيها، وتصرفات تتكلف أن تجد لها عذرا، كما قيل:

مِـمّـا ينغّصُنـي فـي أَرضِ أَندَلُـسٍ      سَـمـاعُ مُعتَصِمٍ فيـها وَمُعتَضِـدِ

أَسماءُ مَملَكَةٍ في غَيرِ مَوضِعِها       كَالهِرِّ يَحكي اِنتِفاخاً صَولَةَ الأَسَدِ

 

وماذا عليَّ إذ فعلتُ؟

لم أكن في ذلك بِدْعًا ولن أكون؛ فلا يزال هذا دأب الصالحين في كل عصر ومصر؛ يبغضون التفخيم والتعظيم كما لو كان سبيلهم إلى النار، ويودون أن يكونوا بين الناس كآحاد الناس، فالناس عند الله متساوون كما تساوى أصل الطين الذي كان منشؤهم منه رغم تباين ألوانه والتفاوت في الأصول والأعراق والمهارات والجبلّات الذي قضى الله أن يكون سنة من سنن البشر.

فهذا الحسن البصري يهوي نحوه رجل ليقبل يده، فيجتذبها منه، فيقول الرجل: أليس يجوز تقبيل يد العالم، فقال: وهل رأيت عالما؟!

وهذا الإمام أبو إسحاق السبيعي لما قال له رجل: أأنت الشيخ أبو إسحاق؟ قال: لا أنا أبو إسحاق!

وهذا ابن تيمية -رحمه الله- يقول ما أُحب أن أُلقب بتقي الدين، ولكن سماني به أهلي!

وقد قال الإمام النووي -رحمه الله- : “إني لا أجعل أحدًا في حِلٍّ ممن يسميني بمحيي الدين”، وكان بعض الفضلاء من الشَّافعية إذا حَكَى شيئًا عنه يقولُ: قال يحيى النَّووي، فسئل عن ذلك، فقال: “إنَّا نكره أن نسمِّيه باسم كان يكرهه في حياته؛ فعلى هذا فهذه الأسماء إنَّما وُضِعَت عليهم تفعُّلًا، وهم برآء من ذلك”.

لله درُّك يا ذا الإمام، ولله درُّ من حفظك في الممات ولم يخلفك بما كرهت في الحياة!

وماذا عليكم إن فعلتم؟

لو فعلتم لكنتم قد دعوتموني بأحب الأسماء إليّ، وكنتم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبعًا؛ فقد كان ينادي المرء بأحب أسمائه إليه، وكان لا يدعو الناس بما يكرهون، وإني أشهدكم أني لهذه الدال كاره لا محب زاهد، ولداعيني بها عاتب.

خالد علي المرحبي، مهتم بالتقنية والابتكار وصناعة الأفكار. أتعلم كل يوم، وأحاول أن أجيب على سؤال: كيف نعيش حياة أفضل؟ يسرني أنك وصلت إلى مدونتي الشخصية، وأرحب بالتواصل معي في أي وقت.

‎مؤخرة الموقع