رائدة النعم وطوق نجاة الأمم

هو سفينة نوح التي بها الخلاص بأمر الله، الخلاص من طوفان الصراعات؛ صراع الحضارات، صراع الجهل والتخلف، صراع الجوع والفقر، صراع الهويات والمعتقدات، …

ما خَلت من أمة ذات حضارة إلا وتعرف أنه القوة وأنه السبيل وأنه الطوق الذي تتعلق به بعد إرادة الله، وما خلت من أمة إلا ولها فيه صولات وجولات وآراء ومعتقدات. فتلك أمة أحسنت فيه الرأي فرفعها، وتلك أمة أساءت فيه الرأي فخفضها.

العقول خافضة رافعة

مضت سنة الله في الكون أن جعل لكل شيء سببًا؛ فمن أتبع سببًا صحيحًا بلغ النتيجة الصحيحة. وقضى الله أن يكون إعمال العقل سبيلًا قويمًا ومنهجًا سديدًا لكل أمة أرادت التمكين والنجاة بأمر الله؛ {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}. ولا غناء عنه بقوة اقتصاد أو وفرة سلاح؛ {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعًا وأبصارًا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}.

ما من أمة تدرك قدره إلا كان لها رفعة في الدنيا أو الآخرة أو كليهما معًا. فها هي حضارة اليونان تبلغ أوجها الحضاري حين كان للعقل نصيب وافر. وأعقبتها أمم كثيرة ما بين رفع وخفض؛ حتى رأينا عصور الظلام في أوروبا وكيف كان العقل مطموسًا عندهم لحساب خرافات وأساطير القساوسة، حتى كانت صكوك الغفران، وحتى سمعنا أن الاستحمام جريمة وأن النظافة إثم؛ حتى كان غياب العقل سببًا في ثورات شعوبهم وبغضهم لدينهم ونشأة العلمانية كمعالجة لخطأ بخطأ آخر مغاير لا تزال تجاربه تثبت فشله ! ولن نبعد كثيرًا؛ فقد كان هذا حالنا  -نحن العرب- قبل الإسلام، فلم يكن العقل هو المقدَّم، بل كانت الخرافات والتطيرات هي من يملك المشهد، فظهرت فيهم أسوأ عادات وأفكار من وأد البنات وتعدد الآلهة وغيرها؛ فلم تقم لها حضارة قط.

إلى أن جاء الإسلام بالهدى والنور، جاء ناسخًا وخاتمًا للديانات والنواميس جامعًا شتات الأمم في كلمة واحدة وصف واحد. جاء الإسلام في أبهى حلة وأسمى منهج موافق للفطرة، جاء رافعًا شأن العقل داعيًا لعبادة التفكير نابذًا للخرافة والكسل الفكري. جاء بالحقائق والبراهين التي تتناغم بشكل بديع مع هذا المخلوق العجيب. فقامت حضارة هي أرقى ما عرف التاريخ؛ حضارة جمعت بين الجسد والروح، بين الفرد والجماعة، بين الدين والدنيا.

تلك القراطيس والألواح كانت وما تزال أعجوبة الدنيا منذ بزوغ الوحي وحتى يومنا هذا، ولخيالك أن يسبح ويفكر ويتأمل ويتدبر أين كنا وكيف صرنا. وإذا كان هذا الدين العبقري مثالًا رائعا لقيم التأمل والتفكير والتدبر، فإنه في الوقت نفسه منارة لأصحاب العقول ينطلقون منها ويرسون حولها

انطلقت الأمة ردحًا من الدهر لا يوقف تقدمها عدو خافٍ أو بادٍ، حتى ظهر أصحاب ثنائية الشريعة والعقل!

جدلية الشريعة والعقل

كثيرًا ما ينفث أهل الشر سمومهم من ابتداع ثنائيات يزعمونها ضدية -وليست كذلك- معتمدين على ركون أكثر الناس إلى السطحية وإهمال التعمق والميل إلى الدعة الفكرية؛ فيقولون مثلًا: (التراث-الحداثة)، (الدين-الحضارة)، وغيرها. ثم إن المتأمل سيجد أن تلك الثنائية (الشريعة-العقل) هي من هذا القبيل؛ فشريعة الإسلام هي الشريعة الموافقة للعقل الصحيح، وقد صنف أئمة الإسلام كتبًا تبين ذلك، منها (درء تعارض العقل والنقل) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واستمرت تلك المؤلفات إلى وقت الناس هذا. لكني سأحيلك على آيات من كتاب الله -عز وجل- لأريك كيف أن القرآن لا يدعو إلى إعمال العقول فحسب، بل يستفزها استفزازًا!

تأمل معي قوله تعالى في إثبات وحدانيته: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، وقوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذًا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} ثم قال: {سبحان الله عما يصفون}؛ فلم يبدأ بالتنزيه بل بدأ بمخاطبة العقول بالبرهان السديد (إذًا لذهب كل إله بما خلق) أي لو كان هناك أكثر من إله لحاول كل إله مغالبة الآخر حتى يغلب أحدهم ويتفرد بالملك والتدبير، وباب الافتراض باب واسع، من أجل ذلك استعمل (لو) التي تدل على الامتناع أصلًا. ثم ينزه نفسه -عز وجل- بعد تقديم البرهان واستفزاز العقول فيقول: {سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا}! وقد فاض القرآن بالآيات التي تدعو إلى التفكر {لعلكم تتفكرون}، {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}، {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}، وغيرها كثير. بل يمتن الله على عباده أن علم نبيه داود -عليه السلام- صناعة الدروع: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون}، ويمتن علينا بتعليمه إيانا صناعة السفن: {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون}. وهذه صناعات؛ أي هي دعوة للصناعة وإعمال العقل بما ينفع البشرية.

مضت الأمة بهذا النبراس وهذا الضوء المنير قرونًا من الزمن لا تعرف تعارضًا بين نقل صحيح وعقل سديد، فصدّرت لأمم العالم العلوم والمعارف؛ فهذا علم الفقه وأصوله الذي يوازي الفلسفة عند الغرب، وهذا الأدب الذي سافر الدنيا ونهلت منه الأمم، وهذا  الخوارزمي الذي يدين له العقل الأوربي اليوم بالخوارزميات، وهذا الزهراوي وهذا الإدريسي وهذا ابن فرناس وهذا ابن الهيثم وهذا حي بن يقظان الذي وظف عقله ليبدع رسالته التي صارت من روائع الأدب العالمي والتي حوكيت وقلدت من جمال شأنها وبديع أمرها؛ تلك الرسالة التي أثبتت صحة قول القائل: (ربنا عرفوه بالعقل) بتسلسل منطقي فريد وتوظيفٍ للعقل بديعٍ في فهم الأسباب ومسبباتها، إلى أن يصل فتى الغابة إلى واجب الوجود الإلهي، وإلى واجب وحدانيته، وهو الذي لم يَلْقَ إنسيًا ولا جنيًا ولم يقرأ صحيفة ولا كتابًا! وإن كانت دلائل معرفة الله متنوعة ، منها الفطرية ، والعقلية ، والشرعية ، والحسية.

مضت الأمة بنبراسها ونورها إلى أن ظهر في الناس من يدّعون تلك الثنائية الكاذبة، ويزيفون الحقائق ويخلطون بين العقل والهوى، فصدروا أفكارًا تدعو إلى انتكاس الفطرة بزعم (العقل أم الشريعة)! فحينما تمر عليك دعوات الشذوذ الجنسي والنسوية والحريات المنفلتة وإحياء القبلية والعصبية وأمثالها من الهدم الفكري للأُسر وتفكيك نظام المجتمع تدرك تماما أنها دعوات لا تتوافق مع عقل صحيح ينظر إلى المصالح والمفاسد والضار والنافع والصحيح والسقيم والخير والشر، دعوات تمجها النفس السوية وتأبى أن تعيش في ضحالتها ولو كانت على معتقد فاسد فكيف بمن اجتمع له النورين. الحقيقة أنه الهوى وإن أحيط بسياج من دعاوى التفكير وإعمال العقل!

العقل نور من الله ومن أظلم عليه فأنى له أن يبصر الطريق وأنى له أن يرى ذلك الطوق ويتشبث به.

خالد علي المرحبي، مهتم بالتقنية والابتكار وصناعة الأفكار. أتعلم كل يوم، وأحاول أن أجيب على سؤال: كيف نعيش حياة أفضل؟ يسرني أنك وصلت إلى مدونتي الشخصية، وأرحب بالتواصل معي في أي وقت.

‎مؤخرة الموقع