الحقائق التقنية بين وهمين

إن متعة التفكير وثماره الإيجابية أبلغ أثرا على النفس من راحة يتلوها دمار وفراغ روحي رهيب، كما أن راحة العقل وانصرافه عن التفكير والتحليل هو تضييق يجعل من مساحة الاختيارات مجالا محدودا، ويقلل عليك البدائل رغم أنها قابعة في ركن مظلم من عقلك لم تنجح لتكاسلك أو تخاذلك في جرها نحو منطقة الضوء، وهذا ما يجعلك في نهاية الأمر فريسة سهلة لأصحاب الثنائيات الضدية.

أوهام

هذه الفكرة -الثنائية الضدية- من أكثر الأفكار التي يتكئ عليها أهل الشر لينفثوا شرورهم السامة؛ فتراهم يبتكرون أصنافا من الثنائيات لهدف واحد وهو تقبيح الحقيقة وإظهار الصواب في ثوب مغاير إلى الناس، وإضرام فتن يمكن أن يتقى شرها بتحريك الفكر ونقله من الراحة التي يستلذها الكثيرون. من أبرز الثنائيات الضدية: الدين أو الحضارة، التراث أو الحداثة، الشريعة أو الحرية وغيرها، وهم في هذا يستثمرون في ظاهرة انصراف الناس إلى الراحة عن التفكير والتحليل؛ لكون ذلك سبيلا سهلا عليهم لتوفير الكثير من الجهد والتعب، وتلك راحة وهمية، لأن حقيقة الراحة تكمن في قول القائل:

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها

تأتي إلا على جسر من التعب

الميزان العادل

إذا تأملت لوهلة آيات الله المقروءة (القرآن الكريم)، وآيات الله المرئية (الكون)، وجدت أن أكثر الثنائيات التي يبدو على ظاهرها الضدية، يكمن الحق والخير والصواب في التوسط بينها، أو التفاعل والتكامل، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول الله عز وجل: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ وهنا تبرز ثنائية الإمساك والإسراف وكلاهما فعل مستقبح مذموم إن مورس بإغراق ، أما الخير فهو في خيار ثالث بينهما، وهو أن يكون المرء بين ذلك قواما فالتوازن والاعتدال سنة كونية تصنع جمال الكون بمتناقضاته.

وأوصت الشريعة الغرَّاء في هذا الصدد بالاعتدال في أمر الدين والدنيا، فلا يرجح ميزان الشريعة لهوا مطلقا، ولا رهبانية مذمومة في دهاليز المتشائمين ؛ بل إن لربك عليك حقا ولأهلك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا وإن النفوس لتصدأ من إدمان الحزن أو الإغراق في العمل دون راحة ولا استكانة.

وإذا نظرت في الكون من حولك، تجد أنه لا يكتمل سوى بالاقتران والتكامل بين هذه الثنائيات المتناقضة، فثنائية الليل والنهار لا تقوم الحياة إلا بهما معا: يتلاحقان، يتتابعان في نسق رائع ليمنح كل منهما فترة من الحياة سر تميزها، فالنهار للكدح وطلب الرزق والليل للسكينة والأنس بمناجاة الرحمن ولذة الذكر. وفي عالم الإنسان نجد ثنائية الذكر والأنثى اللذين لا تقوم الحياة إلا بالاقتران بينهما، تناغم بين الضعف والقوة وانسجام رائع بين نعومة الأنثى وقوة قرينها ليصنعا معا جمال العالم. أما في عالم الكهرباء فنجد الكهرباء الموجبة والكهرباء السالبة، ولا يقوى أحدهما على إنتاج الكهرباء، بل لا بد من التزاوج بينهما ليلتهب فتيل شمعة الحياة وينير أركانها المظلمة. وهذا قليل من كثير.. فهل ترى هذه الثنائيات ضدية؟!

إذن نحن الآن أمام خيارات كثيرة، وبدائل متنوعة، فلماذا نحصر أنفسنا في بوتقة الثنائيات؟ أظن أننا بقليل من التفكير والتحليل قادرون على الإفلات من مصيدة الثنائيات بذكاء وفهم عميق.

ثنائيات تقنية

لم تكن ثنائية الواقع الافتراضي أو الواقع الحقيقي في معزل عن هذا الصراع المحتدم، هذه الثنائية الكبرى التي تتمخض عن وجودها ثنائيات جزئية مثل: التعلم الإلكتروني أو التعلم المباشر، الروبوت أو البشر، المتاجر الإلكترونية أو الأسواق، التطبيقات الصحية أو المستشفيات، الرحلات الافتراضية أو السفر وغيرها من المصطلحات الحديثة. فتجد الآراء واقعة بين طرفي النقيض، فمنا من يتشبث بالتقنية تشبثه بالماء والنَّفَس، مهملا جانب الإنسانية و التواصل البشري إهمالا كاملا وجذريا يكاد يكون أقرب إلى الإنكار المطلق، وآخر يؤمن بشدة أن الجانب البشري أصل الحياة مهملا جانب التقنية متغافلا عن إيجابياته ، وكل الطرفين يمسك من الصواب بطرف، غير أنه يرمي بالطرف الآخر بعيدا عن واقعه؛ فتراه يكثر ويطنب في عدِّ مَيزات اختياره، وبالإكثار والإطناب ذاتهما يعدد عيوب الاختيار الآخر ويذمه في شدة وتعصب، وإذا مرَّ على ميزات الآخر مرَّ مرَّا سريعا، كلمح البصر أو هو أسرع !

إن خير الأمور أوسطها، فمن الحكمة الجمع بين الحسنيين والتمسك بالإيجابيات في كل خيار، وتجنب السلبيات قدر الإمكان، فلا شك أن التقنيات الحديثة هي منجز عملاق أضاف للبشرية إضافات عظيمة، فقد جعلت التقنية العالم كله قرية صغيرة، بل بيتا، بل غرفة!

فأنت الآن أمام كم مهول من المحتوى الثمين وأنت في بيتك تقتنصه اقتناصا، وتخص نفسك التواقة إلى البحث والاطلاع بأنفس النفائس، من علم ومعرفة وأغراض وعلاج وغيره، وهذا بلا شك يوفر لك الكثير من الوقت والجهد والمال، كذلك التقنية جعلت الخيارات أمامك أكثر، وكل هذا لم تفعله الحياة البشرية وحدها. الخروج من هذا المأزق يكمن في التفكير والتحليل وطرح الأسئلة:

هل هذه الثنائية حقيقية؟ هل هي ضدية؟ ما الهدف من طرحها؟ هل لا يمكن الجمع بينهما؟ هل يملك كل خيار ميزات وعيوبًا؟ أم ميزاتٍ فقط؟ أم عيوبًا فقط؟ هل يمكن قبول الخيار مع تجنب مثالبه؟ هل يمكن قبوله بمثالبه لقلتها؟ هل..هل..هل…

خالد علي المرحبي، مهتم بالتقنية والابتكار وصناعة الأفكار. أتعلم كل يوم، وأحاول أن أجيب على سؤال: كيف نعيش حياة أفضل؟ يسرني أنك وصلت إلى مدونتي الشخصية، وأرحب بالتواصل معي في أي وقت.

‎مؤخرة الموقع