حين تصيبك شدهة !

لا يزال الزمان يهذب معتقداتنا المحدودة في كل مرة فيبهرها بكل جديد، حضارة تتلوها حضارة، تغرب الشمس عن قوم لتطلع على آخرين، فبالأمس البعيد ازدهرت صفحات التاريخ بحضارة فرعون العظيمة، التي لا تزال آثارها تشهد على عظمة البناة وتمكنهم من فنون العمران إلى يوم الناس هذا. يأسرنا جمال هذه الأوتاد بأهراماتها الثلاثة الصامدة التي لا يعرف الناس ـ إلى اليوم ـ سر بقائها وامتلاكها إكسير الخلود العجيب، كما يقف العقل القاصر مبهورا أمام عظمة تماثيلها الحجرية والذهبية وغير ذلك الكثير … هذه بقاياها فكيف بها نفسها! يروى أن المأمون الخليفة العباسي قال في مجلسه: ” قاتل الله فرعون حين قال: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي” فقال بعض الحاضرين: لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين؛ فما ظنك بمُلك دمًّره الله هذا بقيته!

حضارات ممتدة

لم تكن الحضارة الفرعونية إلا امتدادا للحضارات المزدهرة تاريخيا قبلها رغم البون بينهما، ولا بأس أن نعرج على حضارة “عاد” حيث أعجزت قوتهم الجبابرة والعتاة وتفننوا في العمران ولم يضاه قوتهم أحد على الأرض، وبنوا مدينة ليس مثلها في الدنيا. تعرض القرآن بالذكر لهذا الصرح حيث ورد في القرآن الكريم قوله جل في علاه: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}، أما قوم ثمود فقد شيدوا بيوتهم في قلب الجبل متفوقين على أبرع المهندسين وخبراء العمران {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}، {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ}، وغير ذلك من الأقوام الذين أذلهم الله بعد أن تفننوا في الطغيان وأعجبهم جبروتهم متطاولين على الله ـ عز وجل ـ فلم يبق منهم إلا أحاديث تسرد في الأسفار! ولا تزال بعض آثار غيرهم باقية إلى يوم الناس هذا. توالت الحضارات والأعاجيب ودلالات النبوغ البشري في فنون العمران كما في سور الصين العظيم وغيرها الكثير مما يقبل عليه الزوار ويخصصون له رحلات بآلاف الدولارات.

ثم نُصدَم بعد كل هذا في العصر الحديث بالعُمران الذي كاد يحتضن السحاب! ثم بالثورات الصناعية من الأولى وحتى الخامسة التي كادت تعصف بالعقل بما جلبت من زخم وتلاحق عجيب للمنجزات والاكتشافات والصنائع الباهرة، وآليات فاتنة، ثم ما نلبث أن نفيق من هذه الصدمة، حتى نصطدم بالثورات الحاسوبية التي ذهبت بالعقل كل مذهب فلم يقو على مجاراتها ولا التنبؤ بمستقبلها ومآلاتها! ميتافيرس، ذكاء اصطناعي، سلسلة الكتل، وغيرها الكثير ولا تزال الجدة كل يوم تدهشنا، وإن كانت جدة الأمس خطوة تلو أخرى؛ فإن جدة اليوم إلى حيث لا تبصر العين ولا تسمع الأذن، وكأن الزمان يسابق الزمان!

ماذا بعد؟

لعل العجب قد بدأ يتسلل إلى نفسك التي قد تبدو واجمة أمام هذا الزخم من هول ما قرأت وعاينت، وحق لك هذا، لكن إن كنت تعجب من أهرام، قام على بنائها آلاف العمال في سنين، ثم هي محدودة العدد والأبعاد، ثم لا يُعرف لها نفع إلا ما كان من إمتاع العين، ألا تعجب أكثر من جبال هي أشد قوة، بسطت على الأرض رافعة هاماتها نحو السماء في نسق عجيب كأنها تعانقها مسبحة الخلاق العظيم، وهي أكثر عددا، وأبلغ نفعا! إن هذه الجبال الرواسي يبدو منها فوق الأرض ثلث حجمها تقريبا، أما ما تبقى من حجمها فهو تحت الأرض يمنحها التوازن ويحفظها من الهلاك، وهي سبب حياة الناس على الأرض؛ إذ لولاها لاضطربت الأرض ولم يبق عليها حياة {وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ}.

إن كنت تعجب من بناء كاد يبلغ السحاب، وهذا البناء قام عليه أناس كثيرون، مهندسون وإداريون وعمال وغيرهم الكثير، وهو بناء لا يقوم إلا بعَمَد، ثم هو محدود بأبعاده الأربعة، ويوما ما سيهلك ويبلى، سيسقط بفعل الطبيعة أو بفعل نفسه كما يقول الملاحدة من صناعه! إن كنت تعجب من هذا، فما ظنك ببناء شيده عظيم العظماء، وقد أحاط بالأرض كلها، ثم هو بلا عمد، والبشر عاجزون عن إدراك كنهه، بل ربما أنكر بعضهم وجوده أصلا؛ لعدم قدرة عقولهم القاصرة على إدراك تفاصيله، مع أنه ظاهر للناس كلهم، إنها السماء!! خلقها الله عز وجل بلا عمد ووسعت حيز الأرض بما سعى عليها ودبّ فوقها { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها }، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} فأين خلق الناس من خلق العليم الخبير!

إن كنت تقف مذهولا من هذا الحاسوب وتلك الشاشات، ألا يشدك العجب أضعافا مضاعفة بهذا الإنسان الذي صممه! ألا تعجب من خلق البشر على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وعقولهم وعواطفهم، مع أنهم من تراب واحد وماء واحد!  طين لازب ذا رائحة كريهة يتحول بأمر الله إلا لحم ودم وشرايين وأوردة تضخ الدم وتجري حياة في ذلك الذي كان ساكنا، يتلون الطين تماما مثل الثمار مختلفة اللون والطعم والهيئة، والتربة واحدة، والماء واحد! أمعن النظر حولك في خلق الله، فلن ينتهي عجبك، عالم النحل عالم عجيب، كلما هلكت ملكة لهم، اجتمعوا وتوجوا عليهم غيرها، وألبسوها تاج المملكة! لقد أدركوا نظام الحكم قبل أن يصل إليه هذا الإنسان المتغطرس الممعن في طقوس الجبروت فلم يحتفلوا بهذا الاستكشاف وحسن التدبير، بل جعلوها لذلك المخلوق الضعيف! بل انظر إلى هذه الشمس التي تغمر الأرض نورا ودفئا، تبعد عنا ملايين الأميال، ولو اقتربت سنتيمترا واحدا لالتهب الكون واستحالت الحياة، بل ربما احترقت الأرض ومن عليها، فمن ألزمها مكانَها؟ {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}.

لكل ذي لب

سَل علماء الطبيعة لماذا يقتربون من الجنون كل يوم؟ كلما ظنوا أنهم أتوا على آخر شيء في الكون بدا لهم سر غيره! {وَما أوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلّا قَليلا} يذكر علماء الطبيعة أن الكون به ملايين المجرات، والمجرة التي نعيش فيها “درب التبانة” ما هي إلا واحدة من ملايين مثلها لا يُعلم عددها، والأرض لا تعدل في الكون إلا حبة رمل في صحراء قاحلة جرداء! تصور -حرسك الله- هذه الأرض ببرها وبحرها، بسهلها وجبلها، لا تعدل إلا حبة رمل في صحراء، والإنسان جزء يكاد يكون مهملا من هذه الحبة! {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً}.

رغم هذه المخلوقات العجيبة، فإن الحياة المدنية بتلاحق أحداثها تصيب الإنسان بغشاوة على بصره، وحجاب على سمعه؛ فيفتن بصنيع الناس، ولا ينتبه لصنيع الله! مع أن البشر عاجزون عن أن يخلقوا أضعف مخلوقات الله

تأمل قول الله تعالى { يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُۥٓ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُۥ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْـًٔا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ}. لماذا لا ننبهر؟ هل طبع على قلوبنا؟ هل غشي على أبصارنا؟ قصرنا في التأمل في ملكوت الله وأصبحنا ننظر إلى الأمور بغير عقل، نعم بغير عقل لأن خالقها وسمها بآيات لأولي الألباب! ربما أصبح هذا العقل ممعنا في الإدمان فلا يدرك، مدمن للدوبامين (هرمون السعادة كما يحلو للبعض تسميته) وإفرازاته فوق الحد الطبيعي فأصبح لا يكفيه الحد الطبيعي منه، تعود على كم هائل منه في صفحات الشبكة العنكبوتية فضرب العنكبوت شباكه على ذلك العقل، تماما مثل من فقد طعم السكر الطبيعي الذي أودعه الله في الفواكه الطبيعية بعد أن تجرع جسده من سكر المائدة ما أفقده تلك اللذة. عجيب أمر هذا الإنسان، رغم أن الحضارة المادية وفرت للجسد كل ما يشبع حاجاته ونهمه المتلاحق والمسعور، إلا إنها أثبتت عجزها تماما عن الوفاء بحاجات الروح، فالإنسان جسد وروح، ولا تغني حاجة إحداهما عن الأخرى، وإن كان لا بد من إحداهما، فحاجة الروح أولى، فالروح أبقى، والجسد مقترن بالفناء! صدقني إن الإنسان لا ينقصه شيء مادي، بل ينقصه غذاء لروحه، وهذا الغذاء لا تفي به الحضارة المادية، بل هي سبب في هذا الداء، وإلا فلماذا ينصحك الطبيب النفسي بمعانقة الطبيعة واحتضان شجرها وورقها والسعي حافيا على ترابها مداعبا أصلك وسر منشئك؟ ولماذا ينصحك العالم المربي بالخلوة والتأمل مرسلا بصرك وبصيرتك نحو آفاق الملك والملكوت؟

خالد علي المرحبي، مهتم بالتقنية والابتكار وصناعة الأفكار. أتعلم كل يوم، وأحاول أن أجيب على سؤال: كيف نعيش حياة أفضل؟ يسرني أنك وصلت إلى مدونتي الشخصية، وأرحب بالتواصل معي في أي وقت.

‎مؤخرة الموقع