من أفضل الثمار التي تمنحك إياها مدرسة الحياة أنها تصنع انطباعاتك من عمق التجارب، فهي محطات ترسم توجهاتك ومسار استقلاليتك الفكرية والإنسانية شيئا فشيئا حتى تصبح شخصا متزنا يعي جيدا منطلقاته وغاياته في الأمور التي يسع فيها الاجتهاد. ومن إيجابيات ذلك أن يصبح بإمكانك أن تفصح عن اتجاهك الفكري فتساند أو تشجب أو تعبر عن امتعاضك أو استنكارك أو ما شابه ذلك من مواقف تصنع الآراء الجمعية والمواقف. ولكل منا وجهة نظر هي وليدة مجموعة معقدة من المعطيات قد تكون البيئة والتنشئة أهم مقوماتها. كما يتدخل الموروث الفكري والنظرة الشخصية في صقل الآراء وصنع زوايا النظر ناهيك عن دور التكوين الأكاديمي والتعلم. كل هذا سيفسر التعارض الصارخ أو التوافق اللامشروط مع تيار فكري أو توجه ديني أو سياسي أو ثقافي… وكل هذه المعطيات تنصهر مع بعضها مشكلة ما يعرف بالرأي.
وسائل التواصل وصناعة الرأي
لقد أصبحت وسائل التواصل مجالسا افتراضية تعج بالزوار، أو هي أشبه بمراكب دون تذكرة يرتادها الزوار دون قيد ولا ضوابط فتارة تجدها مجالس نافعة وتارات أخرى تجدها بعيدة عن ذلك. أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منصات تدفع الإنسان بقوة شديدة إلى إبداء رأيه في كل شيء تقريبا من خلال أدواتها مثل الإعجابات والتعليقات والتفضيلات وغيرها ولعل هذا من أخطر الأمور وأكثرها انعكاسا على صنع الآراء الجمعية وتحديد المستوى الفكري. من المؤسف حقا أن يصبح كل من يرتاد هذه المواقع خطيبا ضليعا أو أديبا متمكنا أو طبيبا متمرسا في نفس الوقت، حتى أصبحت ميدانا يفيض لغوا وتشدقا بعيدا عن الموضوعية والأدب والنقاء الفكري. كما أصبحت هذه المواقع شيئا فشيئا منابر تذكي نيران الفتنة والتشتت والاختلاف.
كلنا يعلم أنه من الصحيّ فكريا ألا يخلو مجلس ولا نقاش من طرح أفكار وتبادل آراء وقد يفضي بنا النقاش في الكثير من الأحيان إلى اختلاف حاد أو انسجام فكري جميل، ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه بقوة: هل لي أن أملك رأيا في كل الأمور؟
وهل من اللائق أن أتطفل وأنقل تجربة فاشلة أو معلومة مبتورة في غير مجال تخصصي وحلبتي الفكرية التي أجيد الصراع في أركانها فأرتمي من ركن إلى ركن كمن فقد الوعي والتوازن. الجواب الواضح أن هذا محض تطفل يبعدك عن الموضوعية والرقي الفكري ومعرفة وزنك الفكري، فرأيك يا صديقي مرحب به طالما أنه لا يعارض شرع الحكيم العليم، كما لا ينبغي أن يخترق حدود تخصصك ولا يتجاوز إطارك المعرفي. فلنطرح آراءنا برقي وتحضر ولنحترم حدود تخصصاتنا ولنكبح فرامل التطفل الفكري التي أدت إلى صدامات فكرية قد تجعل الأحقاد تسلل بين فجوات النقاش فتزيد من جذوة الاختلاف.
لست أرقى من هؤلاء
التواضع دأب النوابغ، ونبذ الخلاف والاستثمار في العقول أرقى ما وُصف به أهل العلم. فقد نقل عن علماء السلف رويتهم وتريثهم في إبداء الرأي. هل تعلم أن أعلم أهل المدينة وهو الإمام مالك- رحمه الله- كان يقول: ( ما أفتيت حتى أجازني سبعين من أهل المدينة ) ؟ وقال الإمام مالك: من فقه العالم أن يقول لا أعلم. وقد قال بعض العلماء قديما: ليس معي من العلم إلا أني أعلم أني لست أعلم! فمن الخطير أن تكون جاهلا، ولكن الأخطر أن تدعي العلم في غير موضعه فيكون جهلك مركبا وجرمك أفدح وأعظم. وخلاصة القول أن أعظم أنواع الرقي الفكري الإحجام عن اقتحام مالا تفقه فهذا من صميم الأمانة الفكرية والموضوعية وترك الأمور لأهل الاختصاص.
تابعني