يكاد لا يمرُّ عليك يوم إلّا وسمعتَ فيه عن تحوّلات رقميّة أو تقنيات جديدة، أو برامج ذكيّة؛ تشعرك وتشعرُ بحاجتك لها ورغبتك فيها في مختلف المجالات وعلى مدى اتساع طولها وعرضها. إنّنا نركض بكلّ ما نستطيع من جُهد ومالٍ نحو قطار التّقنية الّذي لا يتوقّف في أيّ محطة؛ قطار نتبعه جميعًا، وهو أمامنا يدرك قربنا فيزيد سرعته، كعقارب السّاعة الّتي لا تهدأ أو ترتاح إلّا إذا انتهتْ تلك الشحنات التي تغذيها. صار اليوم تخيّل العالم بلا إنترنت خيالًا، والتّفكير في العيش بدونها كالتّفكير في العيش بلا ماء أو أكسجين. التّقنية الآن شريان نابض يمدّ سكان هذه البسيطة بقوت يومهم، وأخبار قريتهم، يعتني بصحّتهم، ويرفع عنهم غياهب الجهل وظلامته السّحيقة.
رغم هذه الأمواج المتلاطمة من التغيير، ليست التقنية إلا مركبًا يسير بصانعه وربانه أنَّى شاء بإذن الله؛ فيدير دفته صوب الأمواج المتلاطمة إن أراد أو بر الأمان إن حماه الله، وله أن يسير به في نهر هادئ فيستمتع برحلته، أو عكس تيار جارف يتحمل نتيجة هدفه أو خطأ بوصلته وعطبها. سنة الله جارية في هذا العالم الجديد والجريء ((وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ))، فمن لزم الخير هُدي وكُفي ووُقي، وسار بأحسن حال، وبلغ من الخير ما قد يسبق به السلف، وإني أتعجب أن يمتلك عامِّيٌّ من الناس –بفضل الله ثم هذه المحركات الهائلة –من الأحاديث ما لم يقدر على جمعه أو السماع به جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم ويبقى المحك “ولكنه شيء وقر في قلبه” !!
أماني الكبار
في دارٍ من دور المدينةِ المباركةِ جلس عمرُ إلى جماعةٍ من أصحابه فقال لهم: تمنوا؛ فقال أحدُهم: أتمنى لو أن هذه الدارَ مملوءةٌ ذهبًا أنفقه في سبيل الله، ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجلٌ آخر: أتمنى لو أنها مملوءةٌ لؤلؤًا وزَبَرْجَدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق به، ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقولُ يا أميرَ المؤمنين؟ فقال عمر: ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدةَ بنِ الجراح ومعاذِ بنِ جبلٍ وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعينُ بهم على إعلاء كلمة الله.
هكذا هي أمنيات العظماء في صناعة الرجال الذين يصنع الله بهم جيلا فريدا يسابق إلى الله قبل أن يسابق الأمم، وما دامت الأماني منطلقة العنان، لا يحتبسُها شيء، ولا يحبسها شيء، ولا يُحاسبك عنها أحد؛ فدعونا نحلق ونسبح في فضاء الأمنيات نستنطق المستقبل ونعيش في أمل، الأمل الذي يقود الأمة إلى مجدها ونصرها وعزها الذي قال عنه عمر بن الخطاب: ((نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله))، فلا ننتظر من العالم الأول أو المتحضر كما يزعمون وهم أرباب الحظيرة الغربية عبدة الشهوة والمال أن يسبقونا إلى ما يذكر الناس بالله ويصالح دنياهم وآخرتهم بل علينا المسارعة والنظر في المستقبل وصناعته كما يريد الله منا.
مربي المستقبل
من الأمنيات “المربّي الذّكي” وهو مساعدٌ افتراضي يعمل بالذكاء الاصطناعي على شكل جهاز منزلي يساند الآباء والأبناء في التربية والتنشئة الحسنة للأسرة فيوفر لهم في أمور التربية ما يحتاجون إليه ويطمحون له، كمن يستعين بمربٍ ومعلم وأخصائي اجتماعي ومحفظ للقرآن ومرشد أسري في آن معاً! يتفاعل معه أهل المنزل من خلال الصوت الطبيعي فهي الوسيلة الأساسية للتواصل مثل البشر، ويقوم هو بتحليل ما يلتقطه من أصوات ومعلومات ويعالجها بشكل دقيق ليقدم خدمات تربوية واجتماعية وترفيهية بعد اتصاله بالإنترنت وبحثه عن أفضل الحلول، فيهديها على طبق من تقنية، الطبق المحبب والأشهى لذلك الجيل الذي رضع حبها وشب عليها، فيعمل أربعة وعشرين ساعة دون كلل أو ملل.
يأتيه الطفل ليقول له: اِحكِ لي قصة قبل النوم، فيُسمعه قصة هادفة جميلة تبعث الطمأنينة إلى قلبه، وينام ذاك الصغير على صوته، فيصمت حتى لا يوقظه، يُداعبه نهارًا ويُلاعبه، ويُعلمّه في كلّ فرصة آية من القرآن، أو حديثًا شريفًا أو بيتًا من الشّعر عميق المعنى والدّلالة، يعلّمه الأخلاق، ويحكي له سيَرَ العظماء، ويُشبّهه بهم، حتى تلمَعَ في ذهنِ الصّبيّ الصّغير أُمنية جميلة محمودة؛ أو يقع على قُدوة له في عالم تشرذمَ النّاس فيه بين هذا وذاك، فيزدان بالأدب ويبلغ أسمى الرتب.
يأتيه الشاب فيسرّ إليه خفية: أشعر بملل فبماذا تنصحني؟ فيجيبه بسيل وافر من الأفكار والأنشطة الهادفة التي تبعد السآمة والملل ويستغرق وقتًا في عملها، ثم يسأله: هل وجدت ما أوصيتك به ممتعا؟ ليقيم تجربته، ثم يُشاركه أخباره، يُسامره ويُناصحه، ويُشاوره، حتى تتّقد نفسه ويقوى عزمه. يذكر الأسرة بالأذكار اليومية ويرددها لهم صباحًا ومساءً، ويحفظ مواعيدهم الأسرية كموعد النزهة وزيارة الأقارب وغيرها.
يستمع إلى المنزل فيقول ما لهذا البيت لا يقرأ أهله القرآن فيحثهم على القراءة ويذكرهم بها حتى تحط السعادة رحالها وتضع البركة أغصانها وثمارها، وما إن يسمع صوت صراخ أحدهم إلا ويميزه ثم يبعث برسالة مباشرة إلى والديه يحثهم على أفضل طريقة للتعامل مع الابن قبل أن تسير الأمور إلى غير مجراها، ويحدث ما لا يحمد عقباها.
تحب الأم سماع بودكاست لطيف حول اهتماماتها فلا تجد المربي الذكي إلا مذكرًا ومنبهًا لمواعيدها، وربما أذاع ما تحب سماعه مباشرة بعد موافقتها. يقرأ الكتب بصوت مرتفع ويساعد في أعمال المنزل وإيجاد الأشياء الضائعة من خلال التواصل مع أجهزة إنترنت الأشياء فيشغل الإضاءة ويطفيها وكذلك أجهزة التكييف وغيرها وكأنه يتمثل خيركم خيركم لأهله !
ما إن يعود الأطفال من المدرسة حتّى يتحلقوا حوله، يسألهم ويسألونه ويلقي عليهم الطرائف والألغاز المضحكة والمسلية، ويسمعهم من طرائف الشعر العربي ما يستقيم به لسانهم وتزكوا به أنفسهم. يذكرهم بعد اللعب بواجباتهم المدرسية وأوقات الصلوات دون تدخل من أحد، ولا يمانع مساعدتهم في المذاكرة؛ كأن يستوثق أحدهم من نتيجة معادلة رياضية أو معرفة عاصمة دولة أو تاريخ معركة، بل قد تجده معلمًا متمكنا للغات، كالإنجليزية مثلًا.
آسف عزيزي القارئ على مقاطعة ذلك الخيال الذي تسبح فيه فلم يبق من المقال إلا أسطر يسيرة أخبرك أننا قد لا نستطيع الاستغناء عن هذا المساعد مستقبلا؛ إذ إنَّ
التربية مهمة ومسؤولية تزداد عظما مع تلك المتغيرات التي تهز الكوكب من شرقه لغربه، وإذا كانت التربية شاقة حتى على أهل المراس فأنى للأجهزة وحدها تحمُّل ثقلها وفهم كافة أبعادها؟ إذا هي مساعدة تقدم دعما أحوج ما نكون إليه فتخفف وطأة ذلك الحمل الثقيل
ليس هذا الحلم صعب المنال ولا أبالغ إن أخبرتك أن العالم قد شهد بالفعل ولادة جل تقنياته ولكن من يعلق الجرس، وقد صدق من قال:
نبني من الأقوال قصرا شامخا
والفعل دون الشامخات ركـام
في حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، التربية أمانة يسأل عنها الإنسان ويحاسب عليها ويبقى المربي الذكي مساند ومساعد فيما اعتاده البشر ودأبت الأجهزة الذكية على فهمه، بل والتفوق فيه !
تابعني