لا تشتري راحتك !

لا تخطأ عينيك المحدقتين بالشاشة أحاديث الناس وأسمارهم عن “اتبع شغفك” و “دلل نفسك” و “اعمل فيما تحب” و “خذ قسطا من الراحة” والكثير من وسائل وأدوات الراحة والاستجمام والتلذذ بمتع الحياة. صوت بداخلي يكمل مسلسل تلك الدراما الرومانسية فيقول لا تضبط منبهك بعد اليوم على ساعة الاستيقاظ لبدء مسيرة الكدح والشقاء، أطلق لهذا الجسد عنان التفنن في ممارسة طقوس الكسل، سلّ نفسك ومتعها بما يشبع هذا النهم المتنامي للراحة في نفسك كأخطبوط شرس يلف أذرعه على كيانك ليرمي بك في مهالك الملذات. أدمن الأكل وشاهد ما تهواه من مسلسلات غير آبه بما يضيع عليك من فرص لصنع متع الحياة الحقيقية. لا تبالي بالقراءة فهي نشاط كمالي لا يعود عليك بالنفع بل يسجنك بين صفحات الكتاب البالية ليمنع عليك متعة الحياة. امتنع عن الرياضة فهي هدر لطاقات جسمك ووقتك وإرهاق لا طائل من ورائه. إننا قوم مولعون بالحياة الناعمة التي يدعو مؤيدوها إلى ضرورة الجمع بين ما نعمل وما نحب أن نعمل وفي الواقع هذا ليس متاحا للجميع. أهل هذا التوجه المفرط في المادية والولع بالمتعة الفانية يقدسون الشغف إلى حد يجعل المتلقي يعقد العزم على ترك ما يقوم به ليس لشيء إلا أنه لا يطيقه. لا غرو أن يعمل الإنسان فيما يحب وأن يأخذ قسطا من الراحة يتقوى به وأن يعيش بين الشرات والفترات وإنما العجب أن تصبح الحياة الناعمة غاية تقصد وشرط في العمل لا يفقد.

سياط الجزاء

أوقف بعد كل هذا أسطوانة اللوم التي تشغلها بصفة يومية ولا تفرغ شظايا انفجارك المرتقب على واحد من البشر غيرك، أبعد كل من يخرج عن نطاقك عن دائرة اللوم: لا أب أو أم، ولا مجتمع ولا نظام سيكون له دور فيما سينالك من عظيم الضرر. تدمن النفس الأهواء وتقبل عليها في شغف كما يدمن المتعاطي اشتمام لفّة المخدر، إنها مبرمجة بشكل يكاد يكون تلقائيا على الجري وراء الملذات لما تحققه في النفس من نشوة من الوارد أن تتحول بعد لحظات إلى دمار واجترار لمشاعر الذنب التي تجلدك. أليست النفس أمارة بالسوء؟ أنت تماما كحال الطفل الصغير الذي يستلذ أكل الحلوى غير منتبه ولا مستوعب لما تحدثه من أضرار في جسمه، بينما تجتهد أمه في دفع الأضرار عن جسده الصغير وتتفنن في ابتكار ما يمكن أن يقنع نهمه الشديد باختراع البدائل وقد تخسر في سبيل ذلك جهدا مضنيا ومصاريف لا يعلمها إلا الله. تلك هي حال نفسك المولعة بالراحة المتيمة بطقوس الكسل، بينما يدرك قلبك أن لا خير في كل هذا، بل أضرار متتابعة منها هدر طاقات الجسد وتضييع الأوقات الثمينة دون طائل ولا فائدة.

الدنيا كدح مستمر

أمعن النظر في هذه الآية واطلق لتأملك العنان في قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) حقيقة أن لا راحة لمخلوق في الدنيا من المهد إلى يوم البعث. الكون مفطور على الحركة مشبّع بتفاصيلها في كل ركن وزاوية، فلنتأمل معا تعاقب الليل والنهار في نسق مبهر، الغيث المنزل ليغسل شعث القلوب ويعيد للكون بريقه فيفجر الزرع والثمر في آية كونية رائعة، النبتة الصغيرة التي تشق الأرض مع ضعفها فتواجه الرياح والأمطار والحرارة حين خروجها، الحركة مقدسة وهي من السنن الكونية التي تبعث النفس على التطوير المتواصل ونبذ الركود. ينال الخبز المركون التلف فيعشش فيه العفن كما ينبذ كل عاقل الميل نحو الكسل والعجز فكلها آفات تنخر جسد الأمة وتهلكها شيئا فشيئا. ألم تبهرك أبيات الإمام الشافعي- رحمه الله- حينما تناول هذا الموضوع في معنى رائع يجعل الكسل شيئا مستقذرا منبوذا:

  إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ                 إِنْ سَال طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ

ترياق الروح

هنا يتبادر إلينا تساؤل منطقي: أما آن لك أن تعقد العزم على تولي الأمور بنفسك وتفصل قلبك عن النفس التي تزج بك في زنزانة الضياع وتحيطك بظلمة الكسل؟

كان معلم البشرية وإمامها وساقي العطشى من فضل هديه الكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد لنا في درس علمي عملي أن الاستعانة بالله مفتاح يذلل كل طريق صعب فقد كان عليه الصلاة والسلام يستهل يومه بطلب البركة والاستعاذة من شر الكسل ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله ﷺ قال: “يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام، ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان” متفق عليه، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل … ” رواه البخاري، وكان عليه الصلاة والسلام يرسم لنا خارطة الطريق لحياة أكثر إنتاجية وإنجازا، حيث قال: “احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنَّ” رواه مسلم. إن المفتاح الحقيقي لفتح الآفاق هو الصبر، الصبر على ما نكره لأن فيه فائدة لنا، كالدواء بالنسبة للمريض، يصف لنا الطبيب العقاقير ونتجرعها على مضض قصد الشفاء والحصول على العافية.

يجب أن تعلم أن مطلق الراحة الحقيقية هي حين تطأ أول قدميك الجنة، ما دون ذلك فهي أوقات رخاء تنتهي وتتبعها شدة وهكذا دواليك، هي أيام دول بين الناس، لا سرور يدوم على بشر ولا رخاء أيضا

أما تلك المتعة التي تجنيها من إتباع النفس والهوى فهي قصيرة المدى سرعان ما تفنى بزوال المتعة، قد تستطيبها في حينها وتستمتع بها لكنها تختفي كالسراب بل وتعقبها مشقة، بينما في المقابل نجد أن الراحة الحقيقة هي حصاد إتباع النقل -الشرع- والعقل والذي يوصي بالجد والتخلص من الخمول، الأمر الذي يبدو في ظاهره صعبا لكنه في باطنه هو متعة وانتفاع دائم. يقال أن الراحة ليست هي نهاية الطريق بل الراحة تكمن في الطريق نفسه. كف على جعل الراحة أو إن شئت القول السعادة غايتك، فراحتك في كل يوم تعيشه في عملك، في المرحلة العمرية التي تعيشها، في كيفية تعاملك مع المشاكل التي تعترض طريقك وإيجادك للحلول والوصول إلى غاياتك بعد تصميم طويل وتعب شديد.

كن ألماسا

أريدك أن تتأمل هذا المثال وتتمعن في مغزاه، الألماس رمز الثراء ومهوى قلوب الحسناوات من النساء وحليف زينة الأغنياء ما هو إلا كربون عولج بالحرارة والضغط العالي تحت طبقات الأرض، وقد أخذ وقتا طويلا ليستوي، ونقلته الحمم البركانية إلى السطح وتسابق المنقبون إلى البحث عنه، في المقابل نجد أن الفحم هو ذات الكربون مع فارق جوهري، فقد تكون في السطح ونتج عن فقدان سريع للماء، المكون نفسه لكن القيمة اختلفت باختلاف ظروف التكوين. والمغزى أنه كلما اشتدت بك الظروف وقلت راحتك وكان عملك إلى خير فاعلم أنك في المسار الصحيح بإذن الله، تعامل مع الأمر بتقبل الواقع وإن عرضت عليك الخيارات فاختر الأيسر فهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، كل محنة تمر بها كل وقت عصيب تواجهه كل معرفة تكتسبها هي في ميزان حسناتك إن أخلصت العمل لله عز وجل، هي رصيد إضافي لشخصيتك، وفي الآن نفسه هي دليل على أنك ستكون قويا ولامعا كالألماس.

بسبب التقدم التقني والانتشار الكبير للأنترنت أصبحت كمية التفاهة والترفيه والمشتتات والملهيات التي تحيط بكل واحد منا رهيبة ولا يمكن عدها، وكلها دافعة إلى الاستلقاء والتسمر أمامها، في المقابل هناك المعرفة التي أصبحت هي أيضا في متناول الجميع وبأسهل الطرق، ولربما بنقرة واحدة وأنت من تقرر على ماذا ستضغط.

أما في الختام فعليك أن تعلم أن حب الله تعالى لعبده منجاة وتوفيق أبدي، عد إلى الله وسيحتويك ستره وتوفيقه. بالغ في الأخذ في الأسباب كما تبالغ في طلب الحياة المريحة، أمعن في استنطاق ملكاتك كما تمعن في إرواء شهواتك، كن قويا في كل تفاصيل كيانك، قوي بالعمل، والصبر والاستعانة والتوكل وسترى معنى جديدا للحياة.

خالد علي المرحبي، مهتم بالتقنية والابتكار وصناعة الأفكار. أتعلم كل يوم، وأحاول أن أجيب على سؤال: كيف نعيش حياة أفضل؟ يسرني أنك وصلت إلى مدونتي الشخصية، وأرحب بالتواصل معي في أي وقت.

‎مؤخرة الموقع