دعونا نتعلم السباحة عن بعد!

مع لهيب أجواء الصيف، أطلق لخيالك العنان أن تطفو على سطح الماء، ومارس معي طريقة السباحة التالية: حافظ على جسمك مستقيمًا ومسطحًا قدر الإمكان، ضع رأسك في الماء وانظر إلى الأسفل ثم أخرجه كل ثانية للتنفس. أَبقِ ذراعك ممتدًا أمامك ثم اسحب الماء نحو الوراء بيدك حتى تصل إلى مستوى الفخذ. أدخل يدك في الماء قليلًا أمام رأسك وابدأ السحب مرة أخرى، وحاول أن تكون الحركة متبادلة بين الذراعين. حرك ساقيك بحركة متتالية صعودًا ونزولًا، مع إبقاء الركبتين مستقيمتين قدر الإمكان. تنفس عندما تدور قليلًا على جانبك، مع إبقاء أذن واحدة في الماء وفمك خارج الماء، خذ نفسًا سريعًا وأعد وجهك إلى الماء. مبارك صديقي، ها أنت تعلمت السباحة وتسطيع الآن ولوج البحار وخوض الغمار ومواجهة الأخطار!

ولكن مهلًا مهلًا..

في عالمٍ متغير ومتجدد، ما لم يكن بالأمس متصورًا صار اليوم واقعًا، ومن بين تلك الظواهر ظاهرة التعلم عن بعد. لقد صار التعلم عن بعد ظاهرة عالمية تجتاح مجالات شتى. فقد سهلت منصات التعلم الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي نقل المعرفة من أي مكان في العالم إلى أي مكان آخر، دون الحاجة إلى مباشرة الحضور في قاعات الدراسة. ومع ذلك، لا تزال بعض الأصوات تردد مخاوفها من أن التعلم عن بعد قد يُصبح بديلًا كليًا للتعلم التقليدي، وأن ذلك قد يؤدي إلى تراجع مهارات التواصل والتعاون والتفاعل الاجتماعي لدى الطلاب، وهناك أصوات أخرى تقبع في الزاوية المقابلة تماماً ترى أن التعلم عن بعد هو المستقبل الكلي وليس للتعلم التقليدي فرصة قادمة للعيش. لتضارب الآراء واختلافها في أمر التعلم عن بعد دعونا ننظر إلى الأمر نظرة ناقدة ومتجردة.

ما من شك في أن التعلم عن بعد له مثالب ظاهرة لا ينبغي أن ينكرها أحد؛ ففي دراسة نشرت عام 2014، أوضح الباحثون أن من أهم الأزمات التي تواجه التعلم عن بعد -على فرض توفر شبكة الإنترنت والموارد التعليمية- هي مشكلة الانضباط الذاتي لدى متلقي المعلومة، إذ إنه وقتها يعتمد على الدافع الشخصي للتعلم، وتظهر هذه المشكلة واضحة لدى طلبة المدارس أكثر من طلبة الجامعات، الذين لديهم دوافع شخصية أكبر للانضباط التعليمي، مثل الحصول على وظيفة وحياة كريمة. وقد يواجه بعض المتعلمين صعوبة في الحفاظ على دافعهم الشخصي لتعلم مهارة ما عن بعد، خاصةً في ظل غياب التفاعل المباشر مع المعلم أو مع مجموعة من المتعلمين الآخرين.

ومن بين تلك الأسباب التي قد تعطل الاستفادة الكاملة من التعلم عن بعد -أيضًا- هي وجود الطلبة في مناطق الصراعات والنزاعات، وما يسببه هذا من تعطل لشبكة الإنترنت مثلًا أو الشبكة الكهربائية، وقلة دافع الأمان والاستقرار النفسي الذي يحض الطالب على تلقي المعلومة بكل تركيز.

 أما عن تقييم المتعلمين ومهاراتهم فقد يصعب تقييم بعض المهارات عن بعد، إذ يتطلب التقييم مراقبة دقيقة لأداء المتعلم وتصحيح أخطائه مباشرة.

كذلك تتطلب بعض المهارات تفاعلًا مباشرًا مع أدوات أو مواد معينة، أو تفاعلًا مع أشخاص آخرين، وذلك ما لا يكون في التعلم عن بعد.

ما من شك في أن التعلم عن بعد له محاسن لا ينبغي أن ينكرها أحد، ولا ننسى أنه كان الظهير المباشر والمعين الحاضر في جائحة كورونا؛ ففي دراسة نشرت في شهر إبريل عام 2021 في مجلة سبرنغر، أوضح الباحثون أن استعمال التعلم عن بعد أو التعلم عبر الإنترنت، في ظل تفشي الوباء، قد أصبح ضرورة لا خيارًا، لهدف تخفيف انتشار العدوى ولمتابعة التعلم حتى لو بتعلم بديل (التعلم عن بعد).

وما ذاك إلا لمزايا ظاهرة في التعلم عن بعد، منها:

المرونة: يتيح التعلم عن بعد للمتعلم حرية اختيار الوقت والمكان المناسبين لتعلم المهارة، وذلك يجعله خيارًا مثاليًا للأشخاص الذين يعانون ضيق الوقت أو صعوبة التنقل.

التكلفة: قد يكون تعلم المهارات عن بعد أقل تكلفة من الالتحاق بالدورات التقليدية، وذلك لقلة تكاليفه التشغيلية وعدم الحاجة إلى دفع رسوم البرنامج أو تكاليف التنقل.

التنوع: توفر منصات التعلم عن بعد مجموعة متنوعة من الفيديوهات والبرامج التعليمية التي يمكن للمتعلم الاختيار من بينها، وذلك يتيح له حرية اختيار أسلوب التعلم الذي يناسبه.

فهذه المحاسن قد تجعل التعلم عن بعد عوضًا -ولو جزئيًا- عن التعلم المباشر لبعض المناطق التي لا تتوفر فيها المؤسسات التعليمية، أو للأشخاص الذين لا يمتلكون الموارد المالية أو الوقت للانتظام في الدراسة الجامعية أو المدرسية، لظروف تتعلق بالعمل، أو لظروف اجتماعية وغيرها. وقد يكون التعلم عن بعد حلًا لذوي الإعاقة، أو الأمراض المزمنة للحاق بالركب وإكمال المسيرة التعليمية. وهو بلا شك حل مثالي لمن فاتته فرصة التعليم، لأن موارد التعلم الإلكتروني من شروحات أو فيديوهات متوفرة جدًا على شبكة الإنترنت، وتتوفر أحيانًا شهادات تعلم أو حضور مجانية أو مدفوعة. أما أهم فئة على الإطلاق استفادت أو قد تستفيد من التعلم الإلكتروني فهي فئة حديثي التخرج أو الموظفون الذين يبحثون عن تطوير سيرهم الذاتية، واكتساب مهارات جديدة مطلوبة في سوق العمل، وقد بادر عدد لا يحصى من الجامعات إلى نشر الدورات المجانية على شبكة الإنترنت، نذكر منها على سبيل المثال جامعتي هارفارد وأكسفورد، وغيرها كثير من المؤسسات التعليمية.

مع أن المهارات الرقمية أو مهارات استخدام الحاسوب مهارات ضرورية لطلاب الجامعات، فإن هناك اختلافات ثقافية وظروفًا اجتماعية واقتصادية تؤثر في تقبل فكرة التعلم عبر الإنترنت حسب كل بلد وثقافة، ففي عديد من البلدان المتقدمة يمتلك أغلب الطلاب أجهزة محمولة أو مكتبية، ووصولًا دائمًا إلى شبكة الإنترنت، بينما تقل هذه الفرصة في المناطق النائية أو المعزولة، مثل بعض المناطق في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا. وسبب آخر قد يحد من نجاح تجربة التعلم عن بعد هو قلة الخبرة في هذا المجال، فدولة مثل البيرو مثلًا، لم تكن لدى جامعاتها خبرة سابقة في التعلم عن بعد، ونسبة الجامعات التي لم تكن مؤهلة لتغيير نظامها التعليمي بلغت سبعين بالمئة من هذه الجامعات. إذن نحن بحاجة أن نكون متفائلين وواقعيين في آن واحد بعيدين كل البعد عمن قالت “دعوهم يأكلوا الكعك”!

لهذا التضارب في الأفكار، والاختلاف في الآراء، وتنوع الثقافات، ولهذه المحاسن وتلك العيوب؛ نادت أصوات تدعو إلى ما يسمى “التعلم المدمج” ليقرب المسافة بين هذه الأفكار وتلك الآراء، فيأخذ من كل رأي صوابه ويدع خطأه، وهو الجمع بين التعلم التقليدي والتعلم عن بعد. التعلم المدمج يجمع بين طرق التعلم التقليدية، مثل المحاضرات والندوات المباشرة وجهًا لوجه، وطرق التعلم عن بعد، مثل الفيديوهات والبرامج التعليمية التفاعلية، لخلق تجربة تعليمية غنية ومتكاملة تلبي حاجات المتعلمين المختلفة. وما من شك في أن هذا سبيل قويم ورأي رشيد؛ لما للتعلم المدمج من ميزات جمعها من النوعين السابقين، ومنها:

    • يُوفر التعلم المدمج للمتعلمين فرصة الاستفادة من مميزات كلٍ من التعلم التقليدي والتعلم عن بعد.
    • يُتيح التعلم المدمج للمتعلمين حرية اختيار الوقت والمكان المناسبين للتعلم.
    • يُشجع التعلم المدمج على التفاعل والمشاركة بين المتعلمين والمعلمين.
    • يُساعد التعلم المدمج على تقييم تقدم المتعلمين تقييمًا أفضل.

لا يمكن الجزم بإمكانية تعلم أي مهارة عن بعد تعلمًا مكتمل الأركان؛ فذلك يعتمد على نوع المهارة وطبيعتها، ومدى توفر الأدوات والبرامج التعليمية المناسبة لتعلمها عن بعد، وكذلك على قدرة المتعلم على التفاعل مع المحتوى التعليمي والالتزام بالممارسة والتطبيق. ولكن، التعليم المدمج استراتيجية فعّالة لتعلم المهارات في عصر التكنولوجيا؛ فهو حل وسط بين التعلم المباشر والتعلم عن بعد، ويُتيح للمتعلمين الاستفادة من مزاياهما جميعًا.

وأخيرًا، يمكنك الآن تعلم السباحة بطريقة تقليدية وبممارسة مباشرة، ويمكنك زيادة حصيلتك المعرفية ببعض الخبرات والفوائد الصحية وغيرها من خلال التعلم عن بعد.. نعم ستكون في الطريق الصحيح الآن بإذن الله.

خالد علي المرحبي، مهتم بالتقنية والابتكار وصناعة الأفكار. أتعلم كل يوم، وأحاول أن أجيب على سؤال: كيف نعيش حياة أفضل؟ يسرني أنك وصلت إلى مدونتي الشخصية، وأرحب بالتواصل معي في أي وقت.

‎مؤخرة الموقع