(إِنَّمَا بُعثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ)؛ بهذه الصّياغة الموجزة التّركيب، وصف لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قصدَ بعثِه، ومكمن غايته، وزانَ الجُملة حُسنًا أُسلوبها التّوكيديّ وقصدُها الواضح، فأُعلِيَتْ مكارمُ الأخلاق، حتى أضحت روحًا للأمةّ، وشريانها النّابض، وأصل قوّتها، وسلاحَ صُمُودها أمام العواصف والحوادث والابتلاءات.
واقع مشاهد
إنّنا اليومَ نُواجه تزويرًا وتحريفًا كثيرًا بلا عدد، وقلبًا للحقائق والمسلّمات والمعايير، وتشويهًا للقيم والمبادئ والمكارم الّتي حفظت لنا منذ قديم عهدٍ أمْننا واستقرارنا في الحياة الباقية قبل الدّنيا الفانية، ودخلت على مُجتمعنا وقيمنا إفرازات غريبة وشرقية؛ لتغيّر قيمنا وتبدّل مبادئنا وقناعتنا، إلى اللذّة والمادّيّة؛ بل إنّ هذا التّزييف لم تسلم منه القيم الإنسانية نفسها؛ وهي الّتي تتفق عليها جُلُّ الحضارات والشّعوب والأمم.
وأساليب التّزييف تتنوّع وتتعّدد؛ بين تزوير التأريخ والتّأثير على مصادر الثّقافة والمعرفة، وإعادة ترتيب الأولويّات، وتهميش القضايا الجوهرية، وتعظيم القضايا الثّانوية. ونُسلّط الضّياء هنا على قيمة الرّجولة الّتي تأصّلت فينا فطرةً، ونشأنا على حبّها صبيةً، وتمثّلنا بها فتية وشُبَّانًا وُشُيُوخًا، فلك أن تُسمّيها الفتوّة، والإنسانية، والمروءة، والسّموّ، أو ما شئت من المعالي العظيمة.
فليست الرّجولة ما يصوَّرُ لنا صباح مساء ! حقًّا.. ليست الرّجولة في عضلات مفتولة، وجسد خالٍ من العيوب والشَّعر، ليست في شاربٍ وعارضٍ وصوتٍ جهوريّ عالٍ، ولا في ملابس فاخرة، وأموال طائلة، وأسوِرة مُذهّبة، وعُطُورٍ عبِقة، ليست دُخانَ سجائر منفوث، ولا شهوة ساعة مُطاعة، ليست الرجولة كلّ هذا ولا جزءًا واحدًا منه.
مفاهيم ومبادئ
تُطلق الرّجولة أحيانًا، ويُراد بها صفة الذّكورة، وليست الذكورة مدحًا، بل بيانُ جِنسٍ. أمّا المعنى الّذي أُريده؛ فتكون الرجولة فيه وصفًا زَائِدًا، يستحقّ صاحبه من أجله المدح والثّناء؛ فالرّجولة أخلاق كريمة حسنة، تُشبه في رونقِها وجمالها المثالية المُنقرضة، متمثّلةً في الشّجاعة في الدّفاع عن الأهل والعشيرة، وفصاحة في التّعبير بالكلمة عن الرّأي، وكرامة وكرمًا، وشرفًا ورفعة، والتزام بالوعد، والصّدق في العهد، وصفاء الذهن، وقوة البديهة، وجزالة في الحديث، وبلاغة في اللّسان، وتقوى في النّفس، وورع عن خوارم التقى، وإحسان.
وأسمى درجات الرجولة؛ المُروءة، وصفتها: أن يغلبَ العقل الشّهوة، وإذا كان العقل يأمرك بالأنفع، فإنّ المروءة تأمرك بالأرفع، ففي لسان العرب: “المُرُوءَة كَمالُ الرُّجُوليَّة، والمُرُوءَة: الإِنسانية، وقيل للأَحْنَفِ: ما المُرُوءَةُ؟ فقال: العِفَّةُ والحِرْفةُ. وسئل آخَرُ عن المُروءَة، فقال: المُرُوءَة أَن لا تفعل في السِّرِّ أَمرًا وأَنت تَسْتَحْيِي أَن تَفْعَلَهُ جَهْرًا”.
الرجولة لدى الشعوب
وإن اختلف تعريف الرّجولة ودلالتها بين حضارات الأرض قاطبة؛ فإنّها حاضرة في ثقافتهم وحياتهم الأصيلة؛ فالرّجولة في الصّين، مُرتبطة بالجُنديّة، والقوة والدّفاع عن الأرض، وفي أدغال إفريقيا؛ يستطيع المتّصف بالرّجولة قنصَ صيدٍ صعب كالأسد بلا سلاح، مُكتفيًا برُمح أو خنجر، أو قيادة قافلة والنّجاة بها في الغابات الموحشة والمفازات المُقفرة. بينما يعبّر سكان غابات الأمازون بالرّجولة بمدى مقدرة الرجل على تحمّل قرصات نمل الرصاص بالغ الألم دون تأوّه أو ضجر. أما ما رأيته بعيني في آسيا الوسطى وتحديدًا في قرغيزستان فشيء يشبه الخيال؛ يشبّ الصغار على تحمل المسؤولية وتعلم الفروسية والقتال. في رحلتي تلك، يقول صاحبي حسن: إن والده -رحمه الله- يعلمه أن الرجال دائمو العمل لا يحسن بهم الجلوس للأكل والحديث على المائدة، وأن أربعة دقائق تكفي لأكل لقيمات يقِمن صُلبه، وأن الرجال لا يأكلون الدجاج، وطعامهم اللحوم الحمراء لتزيد قوتهم قوة !
الميزان الأصيل
والذي يتتبع معنى الرجولة في القرآن الكريم والسنة النبوية، يعلم ميزانها الحق الّذي لا شطط فيه، فأعظم من تتحقق فيهم سمات الرجولة الحقة أُولئك الّذين استضاؤوا بنور الإيمان، وحقّقوا عبادة الرحمن، والتزموا التقوى في السّر والإعلان، في شؤون حياتهم الصغيرة والعظيمة. فوصف الله بها الأنبياء الذين حملوا أعباء الرسالة، وقادوا الأمم إلى ربهم فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى). ووصف الله بها أهل الوفاء والصدق مع الله وأهل المساجد الذين لم تشغلهم الدنيا فقال: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) وقال: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ).
الرجولة وصف يمس الرّوح والنفس والخلق، أكثر مما يمس البدن والظاهر، وإلا فمن الرجال مَن هم رجال في الصورة، لكنهم في الحقيقة ليسوا رجالاً، ومن ثَم جاء النهي النبوي بل اللعن للمتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء. في الحديث: (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ)، قال ﷺ: (اِقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا).
وفي المقابل حين ضحك الأصحاب من دقة ساقي عبد الله بن مسعود؛ حامل القرآن، صاحب النبي ﷺ قال: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْظَمُ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ)، وهكذا النبي ﷺ يصحح المفاهيم ويرسخ القيم
وختام الكلام يا كرام : الرجولة تحمل للمسؤولية، وقوة للإرادة، وضبط للنفس، وعلوّ للهمة، وترفع عن سفاسف الأمور، الرجولة نخوة وعزة وإباء وشجاعة، صدق ووفاء بالعهد والوعد.
وأعظم العهد عهدُ الله عز وجل، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا))، فقد أخذ الله العهد على عباده جميعًا، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا؛ لأنَّه ربهم وخالقهم، وهي الفطرة الثّابتة في نفوسنا وقلوبنا، الدافعة للإيمان به، والتعرف عليه سبحانه وتعالى، لنخرج من دركات الأرض إلى معارج السماء رجالًا كما أراد الله.
تابعني