القلق من المجهول هو سر تهافتنا المسعور نحو طلب الضمانات الدنيوية وتأمين أنفسنا من نوائب الدهر وتقلباته. فللقدر تصاريف عجيبة، والمجهول الأكبر في نظر الجميع هو المستقبل الذي يحمل لنا غير القليل مما ينبغي الاحتياط له. من هذا المعتقد القاصر قصور عقولنا اتجهنا إلى التزود بكل شيء يؤمننا ويمنحنا إحساساً وهمياً بطمأنينة لحظية، ذلك الذي يجعلنا حريصين كل حرص على كسب كل شيء نظن من شأنه إبعادنا عن المكاره والشرور، وهذا كله يندرج ضمن إطار السعي المشروع، ومن هذا السعي أن نمتلك مهارات تضمن لنا مستقبلاً آمناً بإذن الله؛ ولكن الحقيقة المُرة أن هذه المهارات التي نكتسبها في هذا السير مهارات عارضة، عرَض دون جَوهر، وليست كفيلة بأي حال من الأحوال وحدها بمنحنا مستقبلاً آمناً كما يعتقد معظمنا. زد على ذلك أن جل المهارات المُعلنة التي تطرب الآذان بوقعها الرنان ومسمياتها البراقة تكتسي طابعاً تسويقياً قد يبتعد عن الواقعية في معظم الأحوال، فتجد الإعلانات المُضللة عن مهارات القرن العشرين والحادي والعشرين، بل بلغ حد الإيغال حين يناطحون القرن الثاني والعشرين وكأنهم يرونها أيام قلائل أو لم يعلموا عدد السنين والحساب!
وهل أصبحت المهارات علباً مصنعة وبضائع تباع وتشترى؟ أم نكهات وأصباغ وبهارات نضعها على ما نشاء ونصنع منها ما نستلذ بطعمه؟ أم غلب عليها الضمان الذهبي فلك حق استرجاعها إذا لم تجدها صالحة لك؟ ومن الضامن أنها مهارات المستقبل فعلاً؟ وما المستقبل؟ ذلك المجهول الذي لا تجرؤ أقوى مراكز الدراسات على القطع بما يمكن أن يحدث فيه بعد عدد من السنين قليل، ولو قرأت تقريراً استشرافياً حقيقياً سترى كماً كبيراً من الاعتذار المُسبق ألا يُصِب التقرير هدفه، ثم تجد أحدهم يعلن عن أنه كشف الحجب واستشرف عالم يخفى على عباقرة زمانه وقد حصل على كذا وكذا، ويتميز في هذا المجال أو ذاك، ويحسن هذه وهذه، بمبالغات زائفة، حتى إذا وُضع موضع الكشف تكشَّف أمره، وعادت السوأة سوأتين: سوأة الفشل، وسوأة الكذب! هؤلاء قوم مولعون بالمظاهر الجوفاء، مثلهم كمثل الطبل الأجوف تسمع صوته من بعيد وباطنه من الخيرات خالٍ، يلقب نفسه بأفخم الألقاب، وما أكثر ألقاب الهرّ وأخسَّ الهرَّ في نفسه!
حقائق بعيدة عن الظنون
ثمة حقيقة قبل المهارة وهي القيمة، فالمهارات والقيم متلازمتان لا تنفكان عن بعضهما البعض باعتبار ما للقيم من غلبة وحكم على السلوك والفعل، إذ يمكن تعريف القيمة بأنها “حكمٌ يصدره الإنسانُ على شيءٍ ما، مهتدياً بمجموعةِ المبادئ والمعايير التي ارتضاها الشَّرع، محدِّدًا المرغوبَ فيه والمرغوب عنه” أما المهارات فهي القدرة على أداء عمل بإتقان، وإذا كانت القيم تمثل التصور والفلسفة؛ فإن المهارات يكونها الاتجاه والأداء، ومن هنا لا يمكن الحديث عن المهارات دون الدافع والمحرك لها، فلا يمكن مثلاً تخيل سيارة تسير بلا مصدر طاقة! فحين نتحدث عن مستقبل ما يجب أن نُمسِك برأس الخيط الذي يوصلنا إليه وننطلق من حقائق ومسلمات نستمد منها نوراً يضيء لنا معالم ذلك الطريق. المهارة الحقيقية التي ينبغي أن تسعى لاكتسابها من أجل مستقبل آمن، تبدأ من كونك إنسانًا في زمن مات فيه الإنسان، من ألا تسعى لأن تكون آلة؛ وأن تعرف معاني السكينة وتطمئن لما انطوت عليه فطرتك الغراء من إنسانية وسلام، وتتشبث بهما، وتجمع في ذاتك بين ذلك العقل الذي يعي ويرجح وذلك القلب الوئيد الراضي، تبدأ بأن تعرف أن المستقبل جوهره شقان لا ينفصلان: دنيا وآخرة، ولا يرجح ميزان العاقل بأحد الكفتين كما ليس للعاقل أن يخسر إحداهما، وإن كان لا بد من كسب وخسارة، فالعاقل يؤثر الأبقى على الأفنى، وهذا محض افتراض لا نحض عليه؛ فالمسلم الحق هو الذي يجتهد في الفوز بسعادة الدارين الدنيا والآخرة، ويجعل نجاح دنياه بَذرًا لآخرته؛ فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، والنجاح قوة، والفشل ضعف.
المهارة الحقيقية تبدأ من بذلك من روحك وسكبك من كيانك في إتقان ما تصنع، أن تتفاني في إرضاء ربك أولاً وصياغة الأفضل من كل ما وهبه الله لك قرباناً للرضا ومصداقاً لحرصك على نيل المكانة العليا
هي أن تتحلى بالجد والإتقان؛ فالله يحب إذا عمل المرء عملاً أن يتقنه، والله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، المهارة الحقيقية أن تبلغ همتك النجوم، فلن تنال المعالي براحة الجسد
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
من لطائف ما يُروى أن كافورًا الإخشيدي -وكان عبدًا لا يملك أن يدفع الضرر عن نفسه- حدث أن جالس أحد أصحابه يوماً وكان أن تجاذب أطراف الحديث معه عن أمنية يجتهد كل منهما في بلوغها، فقال صاحبه: أتمنى أن أكون طاهي طعام الأمير، أما كافور فقال: أما أنا فأرجو أن أملك مصر، فكان لكل منهما ما أراد! فانظر ـ أدام الله سلامتك ـ كيف كانت همته، ولم تمنعه قلة شأنه الآنية من طلبه الرفعة الآتية الدائمة!
تتحلى بالصدق، وتعرف أن لك ما لك، وعليك ما عليك، وليس من الفطنة أن تُظهر نفسك مكتمل الأركان، لا خلل ولا عيب؛ بل الفطنة أن تبدو غير كامل لكنك تسعى؛ فيومك خير من أمسك، وترجو أن يكون غدك خيراً من يومك.
تتحلى بالصبر والتُؤَدة والتأني؛ فمن تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه! تضع هدفك نصب عينيك، لا تلتفت عنه يمنة ولا يسرة، وإياك وشتات عقلك وعزمك؛ فهو ضياع العمر:
ومشتت العزمات يفني عمره حيران لا ظفر ولا إخفاق
ثق بما وهبك الله من قدرة، قوِّ إيمانك بنفسك وهدفك وطريقك، مهما حاول المثبطون أن يثنوا من عزيمتك، أو يثبطوك، أو يوقفوا مسار تطورك، فأنت أعلم بنفسك، وتبصر في الطريق ما لا يبصر غيرك واستخر ثم استشر.
خط البداية
كثير مما يطرح من مهارات القرن هي مهارات أبجدية يحتاجها الإنسان من بدءِ الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مثل التواصل الفعال وغير ذلك مما يتصل بالشخصية والتعامل مع الآخرين، فلا غرو في تعلمها، إلا أن المعاني السابقة وإن كانت هي كذلك من المسلمات؛ إلا أن فقدها في الناشئة والأجيال الجديدة مؤثر وموجع أكثر؛ إذا كان ظهور الأعراض متأخر، ومن تعلق بالمادة وحدها خسر أغلى ما في الجسد، فالمادة وحدها لا تسد ظمأ الروح. اكتسب كل يوم قراءة جديدة يغتذي عليها عقلك وروحك، طور من نفسك ليس انتظارًا لشيء؛ بل لأنك مُطالب بالسعي وتستحق أن تكون أفضل، تتعلم ليس لعرَض؛ بل لأن العلم شريف يُطلب لذاته؛ ابتغاء الله والدار الآخرة، إياك والمقارنات فبداية مرض القلوب مقارنة نفسك بغيرك، فلست مسؤولاً أن تكون فلاناً أو فلاناً، بل قارن نفسك بنفسك وليكن تحديك القادم أن تتفوق على نفسك اليوم، وإن سعيت لكسب رضا الناس، فسيكون حالك
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
هذه الأبجديات والمعالم طريق بتوفيق الله لعلو الهمة وسط بيئة موحلة غلبت التفاهةُ العقلَ أو هكذا ما تبديه بعض وسائل التواصل الاجتماعي، فابدأ بنفسك، واعلم أن نفسك هي أعظم كسب لك، ولا تعدل بها العالم كله، ثم إياك إياك من عرَض دون جَوهر؛ فهو سراب يحسبه الظمآن ماء!
تابعني