منذ نعومة أظفاري وأنا عاشق مولع بعالم التقنية يسري في نفسي الشغف بتتبع كل تفاصيلها، فكانت التصاميم الراقية للأجهزة الإلكترونية آسرة لي، أقف أمام صورها كالمتعجب أتتبع جمال شكلها وقوة أدائها وأحلم بامتلاك جهازي الحاسب الأول. إنه العالم السحري حيث تتقافز الصور في نسق عجيب وتتلاحق الملفات دونما توقف فيخلق ذلك الزخم دهشة رهيبة للفكر وحافزا لذوي الشغف بالبحث. لن تغيب عن مخيلتي تلك اللحظة الفريدة التي خلدت أول حركة للفأرة حيث استشعرت خفتها وهي تنطلق منسابة لتفتح الملفات بنقرة سحرية. كنت أمسكها وأنا في ذهول وفرحة غامرة تفوق من يحلق في الفضاء، وكان أن خصت المدرسة موهوبيها بزيارة تشجيعية لمدرسة أخرى نموذجية تعتمد نظام أجهزة حاسب في زمن قل فيه أن ترى هذه الأدوات.
اكتشاف واهتمام
من تمام حنان الوالد إلمامه بمكنونات فلذة كبده فهو يفهم حاجاته بالنظرة والهمسة وقد يغيب عنه كل هذا مادة، ولكن الأب يهتدي بحدسه الأبوي القوي ما الذي يحتاجه ابنه. أحس والدي بهذا الشغف فاشترى جهازا لنا كان بمثابة الأكسجين للمريض والمتنفس للحياة. وبدأت رحلة التعلم والعمل وكان شغفي يتنامى ويقوى أثره أكثر وأكثر ولا تسل عني حتى هذه اللحظة. دون أن أكون مبالغا وحتى في هذا العمر أشعر أن جهازي كائن حي يفهمني وافهمه ويبادلني مشاعر التعلق العجيب من شدة شغفي به، فتجدني أعكف على العناية به وبنظافته داخليا وخارجيا (العتاد والبرمجيات) حينا وأشعر أنه منهك إن زادت عليه العمليات والأوامر حينا آخر وأمنحه فرصة للراحة بين ساعة وأخرى. لا تسل عن كيف تبدأ علاقتي بجهاز جديد فكلما أردت اقتناء أحدها أتأمل مكوناته بشكل خاطف وأعرف ما أحتاج منها سريعا لكني أتأمله أكثر بوقت طويل وأقول في نفسي هل يمكن أن يكون هذا صديقي الذي سيقاسمني فضاءا وزمنا طويلا؟ هذا السؤال لا يصمد أمامه إلا قليل من الأجهزة.
مواقف وأحداث
أتذكر في يوم ما حين خاطبني أحد المعلمين وهو يسأل الطلاب عن هواياتهم ومهاراتهم وخبراتهم فمكث كل طالب يفصل في قوله ويشفعه بالأدلة والبراهين والحجج وحينما أتى دوري قلت في جملة واحدة “الحاسب الآلي، هواية ودراية ومهارة” صمت المعلم قليلا ثم عبر عن إعجابه بإجابتي: ما شاء الله، وحين كنت طالبا في الثالث ثانوي حصلت على تسعة وتسعين من مئة وأحسب أن خطأ في أحد الأسئلة أضاعني تلك الدرجة ولا أنسى موقفا محرجا مر بي حينما قابلت معلم الحاسب الآلي في المدرسة الثانوية بعدما تخرجت فنسيت اسمه وهو لا يزال يتذكر اسمي كاملا !
موقف آخر حينما كنت في آخر سنة في البكالوريوس جالسا مع مشرف مشروع التخرج وأحد عباقرة الحاسب الآلي وهو أ.د. رضا بن عبدالوهاب الخريبي (عميد كلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي بجامعة القاهرة) إذ دخل علينا أستاذ آخر وقال متعجبا وبصوت مرتفع: هل هذا طالب عندك؟ شعرت حينها بخوف وثقة في آن معا لا أعرف مصدرها ثم سرد قصة حدثت بيني وبينه ذاك أني كنت طالبا عند الأخير وهو يشرح كودا برمجيا فنظرت للكود وقبل أن يعطي للجهاز أمر التنفيذ قلت له لن يعمل البرنامج وسيظهر خطأ ! استغرب كثيرا من هذا الحكم الواثق العجول من طالب لم ترسخ قدمه في معرفة البرامج والأكواد. تجاهل مصدر الصوت وإذا به يرن في مسمعه صوت الجهاز ورسائله المزعجة لكل مبرمج أن هناك خطأ في الكود. نظر إلي بدهشة وقال: كيف عرفت؟ وأين الخطأ؟ أشرت لمكانه ولتصحيحه ففعل وعمل البرنامج بنجاح، ثم ما لبث أن أراد شرح برنامج آخر وربما شرحه مع فصول أخرى وكان يعمل جيدا فسألني عن صحته فأجبته أنه سيعمل لكن به بعض العلل والأوامر الزائدة التي يمكن اختصارها. انتهى الدرس بسلام وخرجت من القاعة ونسيت الموقف ولم ينسه هذا الأستاذ النبيل.
الصديق حين يغضب
مع هذا كله ودراستي في البكالوريوس ثم الماجستير والدكتوراه وأبحاثي جميعها في مجال الحاسب الآلي إلا أنني دائما ما أشعر برهبة تجاه هذا الجهاز وأضع بيني وبينه حاجزا حيث لا يقترب منه أحدنا، لا أدري كيف يتحول هذا الكائن اللطيف لوحش كاسر حينا أراه يأسر مستخدميه ويضع الأغلال والقيود في معاصمهم، ولا أظنها إلا صرخة منه في وجه صاحبه إن أطال العمل وأصابه بالتعب. لقد أحدث هذا الصديق ثورة عالمية ونجح في استقطاب الملايين نحو شاشة أشبه بمغارات الكنوز العجيبة، فنصب شباكه يصطاد بكل شراهة كل من يستوطن شبكته غير آبه بكبير وصغير غني وفقير. مهلا فلست مغرقا في ذم صاحبي وما كنت إلا جابرا لعثرات الكرام متمثلا (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين). لسنا بحاجة إلا إلى قليل من التوازن وتذكر رسالتنا السماوية وسلوكنا الإنساني وأدوارنا الاجتماعية المختلفة. قليل فقط من الإدارة الحكيمة للوقت كفيلة لأن ننعم بصحبة هذا الكائن المسالم المدافع عن حماه.
تابعني